من المفارقات الغريبة في المشهد السياسي التونسي، أحزابا ومنظمات ان ما يشتت شملها يسارا ويمينا تجمعه "بعصا سحرية" بعض المناسبات المتعلقة بحفل استقبال في سفارة او دار ضيافة اجنبية وخاصة تلك المرتبطة باوربا او بالولايات المتحدة الامريكية.
مثل هذه المفارقة تجلت بوضوح في الصورة التي التقطت لأبرز القيادات السياسية في تونس خلال لقاء جمعهم بوزير الخارجية الفرنسي لوران فابيس بدار كاميلا في ضاحية المرسى حيث مقر الاقامة الخاصة للسفير الفرنسي بتونس.
السواد الاعظم ممن كانوا في هذه الصورة لم يجمعهم حتّى الحوار الوطني الذي أفضى إلى "توافق" منقوص بين الفرقاء حول تنفيذ خارطة الطريق المسطّرة من قبل رباعي المجتمع المدني. فعماد الدايمي وحزبه على سبيل الذكر لا الحصر قاطعا وقتئذ تلك العملية برمتّها بتعلّة أنّها انبطاح ورضوخ لإرادة قوى الثورة المضادة!
كلّ هذه القيادات التي جمعتها دار كاميلا تتوجس خيفة من بعضها البعض إلى درجة تصل الى حد العداء والضغينة. هذا ليس حكما على النوايا أو نبشا في ما تخفيه الصدور ، فذلك أمر لايعلمه إلاّ الله ، لكنّه نتيجة رصد لتصريحات السياسيين و تحليل وتفكيك لمضمون خطاباتهم المعلنة و الخفية منذ أن هبت رياح الثورة على هذه البلاد ورجوعا حتى الى مراحل سابقة كان ائتلاف 18 أكتوبر احدى محطاتها العسيرة الذي لم ينجح على الرغم من أهميته في لم شمل الجميع دون استثناء.
طوال وقت مضى، رفض "فيلة السياسة" المتصارعون حول "كعكة الحكم" في تونس أن يكون فيما بينهم لقاءات ثنائية أو جماعية تدفع نحو مزيد دعم وشائج الوحدة الوطنية.
زعيم الجبهة الشعبية حمّة الهمامي ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ، على سبيل المثال ، واللذان "حجا" الى دار كاميلا، رفضا في أكثر من مرّة الاستجابة لدعوات لفيف من أنصارهما ومن المتابعين للشأن العام طالب بكسر الجليد الذي ميّز العلاقة القائمة بينهما وعقد "لقاء تاريخي" يفتح صفحة جديدة بين طرفين أساسيين في المعادلة السياسية التونسية.
لكنّ "الحجّ" إلى دار كاميلا جعل هذا "الحلم"ممكنا وان كنّا لا ندري كيف كانت أجواء المقابلة التي جمعتهما في أروقة اقامة السفير الفرنسي.
لا نشّك قيد أنملة في أنّ بناء تونس الجديدة التي تقوم على كونية حقوق الانسان ومبادئ الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية يمرّ حتما عبر ترسيخ علاقات جيّدة مع الاشقاء العرب والاصدقاء في الغرب وفقا لقواعد السيادة الوطنية والمصالح المشتركة. بيد أنّ مشاهدتنا لهذه الصورة التي اصطفّ فيها أبرز الفاعلين في المشهد السياسي التونسي أمام "معالي" وزير الخارجية الفرنسي يدفعنا الى التأمّل حول الاليات والاولويات التي تضعها وتفكر بها نخبنا السياسية.
من المؤسف ان مناسبات أهم من لقاء وزير الخارجية الفرنسي في دار كاميلا لم تجمع كل هذا العدد من السياسيين. مرت ذكرى عيد الاستقلال وكذا ذكرى الثورة ومناسبات أخرى وطنية عديدة ولم نر مثل هذا الجمع الذي جمع شتاته ودسّ ضغائنه التجمع الكبير في دار كاميلا.
لله درّك يا لوران فابيس لقد نفروا اليك خفافا وثقالا من كلّ فجّ عميق!