السود في تونس .. مواطنون من درجة ثانية؟!

 أمل المكي-

 
عندما تصعد عفيفة الى عربة المترو في اتّجاه الكلية، تتناهى الى مسمعها عبارات ساخرة من لون بشرتها…فالكثيرون يعتقدون أنها طالبة افريقية قدمت الى تونس للدراسة في احد المعاهد العليا الخاصة، تكتفي عفيفة أحيانا بالصمت والتجاهل..وأحيانا، تلتفت الى الساخرين منها في كبرياء وثقة وتخبرهم أنها "تونسية"!
 
عشرات الآلاف الآخرين من السود، الذين يشكّلون حوالي 15% من مجموع السكان، يعاملون اليوم في تونس على أنهم أحفاد عبيد ورثوا العبودية كما ورثوا لون بشرتهم. تقول عفيفة ان هذه المعاملة تختلف من جنوب البلاد الى شمالها، ففي ولايات الجنوب، حيث تقطن النسبة الأكبر من أصحاب البشرة الداكنة، يستمرّ موروث العبودية الكبير في التحكّم بالعلاقات بين السكان. أمّا في العاصمة، فالتوصيف الأنسب للعلاقة التي تحكم سود السكان ببيضهم هو "التغريب"! وتوضّح عفيفة ذلك بالقول :" في العاصمة يعتقدون للوهلة الأولى أن كل أسود هو غير تونسي، ويشتمونه على ذلك الأساس."
 
قد يبدو هذا القول مبالغا فيه، لكن لأهالي قرية "قصبة سيدي مخلوف" التابعة لولاية مدنين رواية أخرى…
 
فمنذ ما يزيد عن العشر سنوات، يركب السكان البيض حافلة خاصة بهم والسكان السّود حافلة أخرى..الفصل العنصري المطبّق في وسيلة النقل العامة يعكس فصلا عنصريا يعيشه سكان "القصبة" في واقعهم اليومي، وسببه زواج امرأة بيضاء البشرة من رجل أسود رفضه الأهل وأنكره المجتمع المحليّ فاشتعلت نار الحرب بين العشيرتين!
 
"القانون التونسي لا يميّز ولكنّه لا يحمي" هكذا قالت عفيفة وهي تستذكر قصصا عن فتيات وفتيان من بني جلدتها تعرّضوا لمواقف عنصرية في المدرسة أو الشارع أو العمل فتقدّموا هم أو أهلهم بشكايات لدى الشرطة..وما كان من هذه الأخيرة سوى أن تجيبهم بـ"أيّا تسامحوا…ونورمال".
 
وتعزو عفيفة غياب المواطنين السود في الوظائف العليا الى تزعزع ثقتهم في أنفسهم منذ سنوات الطفولة حيث أن العنصرية التي يتعرّضون لها في المدرسة تجعل عددا كبيرا منهم يترك مقاعد الدراسة مبكّرا ولذلك ترى عفيفة أن المهن المتواضعة كـ"الطبّال" و"الزكّار" في معظمها حكر على السود دون غيرهم.
 
المناهج التربوية المعتمدة في مدارسنا لا تقدّم صورة وضّاءة أو نيّرة عن الشخص الأسود بل تمنحه دائما أسوأ النعوت. وكتب التاريخ المعتمدة في مدارسنا لا تدرّس التاريخ كاملا فهي لا تذكر من أين جاء كلّ السود الذين يعيشون على هذه الأرض وتسمح لـ"مخيّلة البيض" بالاعتقاد أن كلّ أسود هو عبد لا محالة!
 
وترى عفيفة، تلك السمراء التي تفخر بتونسيتها ولا تخجل من لونها، أنه على الدولة حماية الأطفال السود بتغيير المناهج التربوية واعادة هيكلة التعليم لاحداث ثورة ثقافية…

السلطات تتلكّأ
 
في مارس الماضي، خرج مئات السود من التونسيين في مسيرة انطلقت من جزيرة جربة وانتهت في العاصمة تحت عنوان "مسيرة المساواة ومناهضة العنصرية ضدّ السود في تونس". وقد دعا منظّموها حينذاك مختلف مكونات المجتمع المدني الى مشاركتهم في المطالبة بحقوق الأقلية السمراء غير أن صوت الأسود لم يسمع بعد رغم الحراك الكبير الذي بدأ يلاحظ على الساحة التونسية بعد الثورة.
 
جمعيات عديدة تعمل في مجال حماية حقوق السود التونسيين على غرار "آدم للمساواة والتنمية" و"أصيلات" و"منامتي"… ويرى توفيق الشعيري رئيس جمعية "آدم للمساواة والتنمية" أنه على الرغم من تعدّد الجمعيات النشطة وتكثيف الجهود، لم يحرز النشطاء في مجال حقوق السود تقدّما يذكر.
 
ويعزو الشعيري ذلك الى تلكّؤ السلطات في فهم قضية تهميش السود أو اعتبارها غير ذات أهمية، فعشرات الآلاف من المواطنين التونسيين هم من أصحاب البشرة السمراء ويشكّلون حوالي 10% الى 15 % من مجموع السكان غير أن اشكالية العنصرية في مؤسسات التربية ومواطن الشغل والفضاءين الاجتماعي والسياسي لا زالت حاضرة بقوة في بلد صنع ثورة في محيطه بالغائه الرقّ منذ عام 1846.
 
التمييز العنصري لا يتجسّد عبر الشتائم والتوصيفات  فحسب بل يتجلّى في بعد آخر من أبعاد الهوية…حيث لا يزال الآلاف من السود في تونس يحملون رغما عن أنوفهم ألقابا عنصرية مثل "وصيّف" و"عتيق" و"شوشان"…ويؤكّد رئيس جمعية "آدم للمساواة والتنمية" أن جمعيته تقدّمت بمطلب لدى المصالح المختصّة في وزارة العدل للنظر في قضية هذه الألقاب وتغييرها لما تحمله من ميز عنصري تجاه الأشخاص،  لكن الملفّ جوبه بالاهمال!
 
ويرى توفيق الشعيري، رئيس جمعية "آدم للمساواة والتنمية" أنه لا فائدة ترجى من جمع الشهادات حول تعرّض أفراد لمواقف عنصرية بسبب لون البشرة، فالانتهاكات خبز السود اليومي وكلّ ما غنموه من مواطنتهم..وفي المقابل، يدعو الشعيري الدولة الى الانتصار لهذه الفئة المهمّشة من أبناء الشعب وتضمين حقوقها والدفاع عن وجودها على أرض وطن تسع الجميع.

دستور 2014 لا يتعرّض أبدا للأقليات
 
في الوقت الذي كان فيه دستور 1959 ينصّ على منع "كلّ أوجه التمييز" جاء دستور 26 جانفي 2014 بنقيصة لا تغتفر حيث أنه أسقط الاشارة الى أشكال التمييز وجعل العبارة نفسها غير معرّفة "من غير تمييز". 
 
ورغم مطالبة كلّ الأطراف الحقوقية بحماية الأقليات والانتصار لقضاياها العادلة، لا يتعرّض الدستور التونسي الجديد مطلقا لهذه الاشكالية، الأمر الذي يعتبره أستاذ القانون العام ورئيس الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية وحيد الفرشيشي "نقيصة كبيرة".
 
ويمضي الفرشيشي في تبيان تناول الجانب القانوني لمشكلة التمييز، فيوضّح أن النصوص القانونية الأخرى على غرار قانون الدخول الى الوظيفة العمومية فيها اشارة واضحة لمنع التمييز، غير أنها تبقى أحكاما عامة لغياب التنصيص على عقوبات في حق الأشخاص الذين يمارسون التمييز فعليا.
 
ويعتبر أستاذ القانون العامّ أن القاضي يواجه مشكلة عويصة في اثبات حصول تمييز بالنسبة للقبول في وظيفة أو الارتقاء المهني، في حال تقدّم الطرف المعني بشكاية، فالشخص الذي قام فعليا بالتمييز يمكنه ادّعاء اعتماد مقوّمات ومعايير أخرى في ذلك على غرار عدم اكتساب الطرف المتضرّر للخبرة المطلوبة أو عدم تمتّعه بمهارات معينة وهنا، لن يكون في وسع القاضي سوى الغاء القرار فقط لكنه لا يستطيع تسليط عقوبات على مرتكب المخالفة.
 
ويؤكّد الأستاذ وحيد الفرشيشي أنّ التمييز على أساس اللّون أو الجنس يعدّ جريمة في الدول المتقدّمة، مضيفا بنبرة متحسّرة "أما نحنا مازلنا بعاد."
 
السود مبعدون عن مواقع القرار
 
يصف مدير المرصد الوطني للشباب والأستاذ في علم الاجتماع محمد الجويلي واقع تهميش أصحاب البشرة السوداء في تونس بكونه "جرحا لا يجب السماح له بالتفاقم"، مؤكّدا على وجوب فتح هذا الموضوع ومناقشته وعلى حقّ المعنيين بالأمر ،ممّن يشعرون بتعرّضهم للتمييز، في التعبير عن مخاوفهم ومشاكلهم.
 
ويشدّد الجويلي على كون تعبير بعض السود التونسيين عن انزعاجهم من تصرفات "عنصرية" يعتبر في حدّ ذاته دليلا على وجود هذه التفرقة العنصرية، معتبرا أنّ الثورة التونسية وما تلاها من حراك حقوقي سمحت بفتح ملفات كانت في السابق "شبه ممنوعة" حسب تعبيره وأهمّها قضايا الأقليات سواء كانت دينية أو لغوية أو عرقية.
 
كما يعترف الجويلي بواقع اقصاء أصحاب البشرة السوداء التونسيين من بعض مواقع القرار والمهن على غرار القضاء والمناصب الوزارية رغم أنه لا يوجد مانع قانوني. ويعلّل الأمر بسيطرة موروث ثقافي معيّن وهيمنة سلوكات اجتماعية عنصرية في ما يتعلّق بالزواج المختلط أو الانتداب في بعض الوظائف أو المعاملات اليومية. ويتساءل في نفس الاطار: كيف يمكن لبلد ألغى الرق منذ عام 1846 أن تتواصل فيه اليوم مظاهر الميز العنصري بسبب لون البشرة؟
 
وعن الحلول الممكنة لانصاف هذه الأقلية من التونسيين التي تعيش واقعا صعبا، يؤكّد محمد الجويلي أنه لا بدّ من العمل على ابراز الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لأصحاب البشرة السوداء واظهار موروثهم الذي يمتازون به عن غيرهم من المواطنين التونسيين. 
 
غير أن عالم الاجتماع ومدير المرصد الوطني للشباب لا يرى ضرورة لتطبيق مبدأ التمييز الايجابي لصالح السود في تونس، ويعتبر أن هذا المبدأ يتمّ اللجوء له فقط في حال وجود هوّة كبيرة وأنّ تطبيقه قد يأتي بالمضرة على مصالح هذه الفئة من المجتمع. 
 
ويرى محمد الجويلي انه على الأقليات السوداء في تونس أن تعمل على تبيان مواقع التهميش التي تتعرّض لها بدلائل وقرائن واضحة، وأنه من الضروري أن تستثمر نقاط القوة لديها دون الدخول في الفلكلورية المقيتة. 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.