حالة التمرّد التي أبداها أعوان القباضات المالية الذين رفضوا الالتحاق بالعمل رغم توصل الاتحاد العام التونسي للشغل الى اتفاق مع وزارتي المالية والشؤون الاجتماعية تترجم بعمق حالة التسيب والانفلات التي أصبحت تعيشها القلعة النقابية الأولى في البلاد على مستوى الهياكل القاعدية لأسباب عديدة.
وحتى تصريحات بعض قادة الاتحاد بوجود "مؤامرة" و"انفلاتات" وعمليات "تحريض" و"إرباك من قبل أطراف غريبة عن الاتحاد" واتهامهم لبعض المنظمات الأخرى ولأطراف سياسية بعينها (حركة النهضة بالأساس) بتأجيج الصراع والحيلولة دون عودة المضربين الى مراكز عملهم لا يجب أن تكون الشجرة التي تحجب غابة التسيب وعدم الانضباط وعدم احترام اللوائح والقواعد المُنظّمة للعمل التي أصبحت تميز المشهد النقابي في تونس.
ولئن كانت الإضرابات الأخيرة التي قادها أعوان القباضات المالية التي تواصلت على امتداد أكثر من أسبوع وما خلفتها من استياء عميق لدى كافة المواطنين قد كشفت المستور، نظرا لأهمية هذا القطاع وحساسيته وتأثيره المباشر على كل شرائح المجتمع مما دفع بكل وسائل الاعلام تقريبا الى تسليط الضوء عليه، فإن ما خفي كان أعظم.
فالإضرابات العشوائية التي تكاد تكون بشكل يومي في كافة ربوع الوطن وفي مختلف القطاعات تقريبا -ولئن كنا نساند بعضها على مستوى المبدأ نظرا لمشروعيتها- تؤكد أن الاتحاد لم يعد قادرا، على ما يبدو، على "السيطرة" على منخرطيه وتوجيههم. وإلا كيف نفسّر مثلا جنوح سواق القطارات وبدعم من أطراف نقابية الى إعلان إضراب فجئي وغير معلن وبشكل آلي تقريبا لمجرد نشوب مناوشة مع أحد المسافرين؟؟؟ هل يدخل هذا النوع من الإضراب داخل إطار العمل النقابي مثلا؟! فهل يحق لعون مراقبة في شركة بحجم الشركة التونسية للسكك الحديدية أن يتسبب في شلل حركة سير القطارات وما تخلفه من أضرار جسيمة على المسافرين وعلى الشركة نفسها لمجرد الاعتداء عليه من قبل أحد المسافرين؟ فلماذا وُضِعت القوانين إذن ؟ ألا يدخل هذا النوع من ردود الفعل الذي لا علاقة له بالعمل النقابي في باب البلطجة واستعراض القوة والاستهتار بالقوانين وبمصالح المواطنين ؟! وكذلك الأمر بالنسبة الى الإضراب الفجئي الذي قام به سواق المترو في الأسابيع الفارطة وعلى امتداد أربعة أيام تقريبا إذ لم يجد السيد مختار الحيلي، الكاتب العام للجامعة العامة للنقل، تبريرا لهذا التحرك الخارج عن السيطرة الا باتهام " بعض الاطراف المنتمية لإحدى المنظمات النقابية الأقل تمثيلية" بالوقوف وراء هذا الإضراب وتحريض الأعوان على " الانسلاخ عن الجامعة العامة للنقل التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل"!! وهي الحجة نفسها التي يقدمها لنا اليوم قادة الاتحاد في مسألة إضراب أعوان القباضات المالية؟ وستكون الحجة نفسها أيضا في قادم الأيام لتبرير كل الإضرابات المزمع تنفيذها بصفة عشوائية. فالعديد من القطاعات الحساسة بدأت في توجيه رسائل واضحة للقيام بإضرابات.
هذا الانفلات النقابي الذي شهدته العديد من القطاعات الحساسة هو في نظر العديد من النقابيين "المنفلتين" ردّ حازم على ما يعتبرونه سياسة الهروب الى الأمام والتملّص من استحقاقات الشغالين ومطالبهم وإلقاء التهم على أطراف نقابية أخرى بالتغرير بأبناء الاتحاد واستقطابهم (وهي حرب مشروعة لامحالة في ظل التعددية النقابية) في محاولة من النقابة الأكثر تمثيلا للشغالين في تونس لذرّ الرماد على العيون من خلال اختلاق أزمة "نقابية" ظاهرها التبرؤ من تواصل الإضراب وباطنها الدفع في اتجاه التضييق على المنظمات النقابية الأخرى من خلال تحميلها مسؤولية كبرى في ما يحدث من اضطرابات وتقديمها في صورة العقبة الرئيسية أمام السلم الاجتماعي وذلك بهدف إقصاء هذه المنظمات "الموازية" و العودة الى احتكار المشهد النقابي من جديد.
هذا الاحساس بالخوف من تملّص الاتحاد من التزاماته تجاه منخرطيه والدفاع عن مصالحهم وحقوقهم هو في حقيقة الأمر نتيجة تراكم عوامل عديدة لعل أبرزها انخراط الاتحاد المفرط في الشأن السياسي من خلال إدارة الحوار الوطني الذي أثمر حكومة المهدي جمعة. هذا الاندفاع نحو العمل السياسي من قبل رموز الاتحاد وقياداته العليا -رغم أنه أفضى إلى نتائج باهرة وجنب البلاد الدخول في نفق مظلم سياسيا وأمنيا- لم يجد له صدى ايجابيا في صفوف أبناء المركزية. بل إن العديد من النقابيين على مستوى القواعد خصوصا رأوْا في انصراف السيد حسين العباسي، الأمين العام للاتحاد ومساعديه الى الشأن السياسي وحضورهم اللافت في كافة الحوارات السياسية في مختلف وسائل الإعلام وتصريحاتهم النارية التي تأخذ أحيانا بعدا حزبيا، إهمالا مبالغا فيه للشأن النقابي الذي هو جوهر عمل المنظمة الشغيلة. كما يخشى منخرطو الاتحاد استعداد القيادة المركزية للإذعان لطلب حكومة جمعة المُطالِبة بإقرار الهدنة الاجتماعية دون الأخذ بعين الاعتبار لتأثيرها عل معيشة الشغالين في ظل الارتفاع المشط للمواد الأساسية وتلويح السلط العمومية باعتزامها رفع الدعم عن العديد من المواد مما من شأنه أن يعمق في حجم الأزمة .
وقد زاد في تأجيج هذا الوضع القراءات العديدة لبعض المحللين الذين يعتبرون الاتحاد بصدد اعتماد خطابين أحدهما إعلامي موجه للقواعد مفاده أن الاتحاد لن يتنازل قيد أنملة عن حقوق منخرطيه واعتبارها خطا أحمر، والثاني سياسي ومضمونه أن الاتحاد سيساند حكومة جمعة حتى النهاية لأنه أول المراهنين عليها وفي نجاحها نصر له ولمبادرته باعتباره الراعي الرئيسي للحوار الوطني. هذه «الازدواجية» في مستوى الخطاب خلقت نوعا من التململ في صفوف النقابيين الذين يرون الاتحاد ، الضامن الوحيد لحقوقهم، بصدد الدخول في مغامرة مجهولة العواقب.
وحتى التبريرات المتكررة لقيادة الاتحاد التي ترى في أن القلعة النقابية لعبت على مدار التاريخ أدوارا سياسية هامة للخروج من البلاد من الأزمات الخانقة التي عصفت بها لم تكن لتقنع من رأى أنه لم يكن على السيد العباسي وجماعته الاندفاع بهذا الشكل في العملية السياسية ولعب دور الأحزاب وتوريط الاتحاد في معارك حزبية وسياسية الخاسر الأكبر فيها هم الشغالون أنفسهم. وهو ما دفع بالعديد من النقابيين الى التمرد على "القيادة العليا" والاستماتة للحؤول دون تنازل الطرف النقابي عن حقوق منخرطيه بخلق حالة من الفوضى والانفلات ورفض أي اتفاق مع الإدارة اعتقادا منهم بأن الاتفاقات صورية وليست ذات جدوى ما لم يتم تفعيلها بصفة فورية.
هذه "الفوضى النقابية" التي عكستها أزمة رفض أعوان القباضات المالية استئناف العمل رغم التوصل الى اتفاق هي رسالة ضمنية مفادها أن على السيد العباسي وجماعته الذين تركوا حشودا غاضبة تتهافت على ساحة محمد علي وآثروا المشاركة في الاحتفالات بذكرى وفاة الحبيب عاشور في صفاقس وتحليل الأزمة عن بعد، أن يعيدوا توجيه بوصلتهم باتجاه قواعدهم النقابية، التي تبقى وحدها قادرة على حماية الاتحاد والذود عن مناعته حتى يبقى حصنا منيعا أمام أعدائه والمتربصين به.