لم يعالج العالم والمنظمات الأممية الدولية أزمة الهجرة غير النظامية ارتكازا على مبادئ إنسانية تراعي الحق في الحياة والتنقل، بل إن تسارع الأحداث دفع الاتحاد الأوروبي الى اعتماد سياسات خارجية أفرزت موت وتشريد آلاف المهاجرين وحوّل بلدان من شمال إفريقيا إلى بؤر تنطلق منها قوارب الموت عبر البحر الأبيض المتوسط.
وتعد تونس من أبرز الدول المتضررة من سياسة الاتحاد الأوروبي في مجال مكافحة الهجرة، سواء على المستوى الأمني أو الاجتماعي والاقتصادي وكذلك الصحي, ووجدت نفسها اليوم محل ابتزاز دولي قوامه قبول المهاجرين مقابل الحصول على قروض من المؤسسات المالية المانحة.
أوروبا تفوّض دولا أخرى لحمايتها من المهاجرين
ولا يعد توافد مئات الآلاف من المهاجرين غير النظامين على تونس وإقامتهم فيها بطريقة غير شرعية محض صدفة بل هو نتاج سياسة أوروبية شرع في تنفيذها الاتحاد الأوروبي منذ سنة 2016 وترتكز أساسا على الدفاع عن نفسها خارج حدودها معتمدة على ميزانيات مالية كبرى خصصت لمقاومة الهجرة غير النظامية.
وترتكز السياسة الأوروبية على تصدير مراقبة الحدود إلى الخارج أو ما يُعبّر عنه بـ„تخريج الحدود“ وهي أداةَ اعتمدها الاتحاد الأوروبي ويسعى من خلالها إلى منع المهاجرين غير النظاميين من بلوغ أوروبا.
ويقدر عدد المهاجرين غير النظاميين من دول إفريقيا جنوب الصحراء بحوالي 700 ألف مهاجرا وفق تقديرات أعلن عنها الاتحاد العام التونسي للشغل بناء على دراسات وإحصائيات أنجزها.
وتفوض الدول الأوربية عبر هذه الاستراتيجية دولا أخرى لمراقبة حدودها مقابل مبالغ مالية وذلك عبر مقاومة الهجرة في االبحر الأبيض المتوسط.
وفي سنة 2016، وأمام تزايد توافد أعداد كبيرة من المهاجرين،عدّلت إيطاليا ودول الاتحاد الأوروبي في ممارساتها لتصدير مراقبة حدودها، لا سيما إلى ليبيا وتونس التي ينظر اللتين إليهما كنقطة انطلاق رئيسية للهجرة غير النظامية.
وضخت دول الاتحاد الأوروبي أموالا طائلة لإنجاح سياسة "الصد بالوكالة" ووضعت نظاما للإعادة القسرية إلى ليبيا وتونس وعملت جاهدة على منح مساعدات مالية لتونس وتعزيز قدرات خفر السواحل الليبي وجرّمت في الآن نفسه عمليات الانقاذ البحري المدنية.
ومنذ سنة 2000 تتعاون الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مع دول شمال إفريقيا توفر لها الدعم اللوجستي والتشغيلي والمالي اللازم للسيطرة على سواحلها ومنع المهاجرين من الوصول إلى الشواطئ الأوروبية.
تحول تونس من دولة عبور إلى منطقة لجوء
ومنذ عام 2015 أصبحت تونس دولة عبور ذات أهمية متزايدة للاجئين من البلدان الأفريقية وهو تطور عززه توسع نظام حدود الاتحاد الأوروبي في البحر الأبيض المتوسط والحرب في مالي وليبيا،وقامت دول الاتحاد الأوروبي بتوسيع تعاونهم بطريقة غير مسبوقة فيما يتعلق بإغلاق الحدود الأوروبية والتونسية ومنع الهجرة غير النظامية من الأراضي التونسية، خاصة وأن الاحصائيات الدولية تبين أن أكثر من ثلث المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا بشكل غير منتظم بين منتصف 2018 ومنتصف 2019 قد أبحروا من الساحل التونسي وهو ما جعل الاتحاد الأوروبي يمارس ضغوطًا متزايدة على تونس من أجل اندماجها بشكل أكبر في نظام حدود الاتحاد الأوروبي وتقييد حركات الهجرة غير النظامية عبر تونس.
وفي عام 2018 دعا الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه إلى إنشاء “نقاط ساخنة” أو “منصات ستقبال إقليمية” في شمال إفريقيا من أجل تنفيذ إجراءات اللجوء خارج الأراضي الأوروبية وزيادة الهجرة في البحر الأبيض المتوسط. وكانت جميع حكومات شمال إفريقيا قد رفضت في البداية المقترحات.
وبسبب التداعيات الاقتصادية لوباء فيروس كورونا (بسبب إغلاق قطاع السياحة التونسي، البلد في حاجة ماسة إلى القروض والمساعدات الخارجية) ، فإن تونس أصبحت أكثر عرضة للضغط الأوروبي، الذي قد يؤتي ثماره بالنسبة للاتحاد الأوروبي للتعاون بشكل أوثق في سياسات نقل الحدود الخارجية.
سياسات تمويل مفخخة
تظل “سياسة الجوار الأوروبية” (ENP) و “أداة الجوار الأوروبية” (ENI) من أبرز آليات التمويل الرئيسية لمشروعات الاتحاد الأوروبي في تونس حيث تم صرف حوالي 205 مليار يورو لتونس ضمن هذه الأطر بين عامي 2011 و 2018(بما في ذلك دعم الميزانية والقروض والأموال لدعم الانتقال السياسي. يقدم الاتحاد الأوروبي أيضًا دعمًا مستهدفًا للهيئات الحكومية ذات الصلة بسياسات الهجرة والحدود الخارجية ولكن أيضًا لإنشاء إدارات متخصصة في الوزارات أو السلطات بهدف تبسيط جهاز الحكومة التونسية فيما يتعلق بسياسات الهجرة والحدود الخارجية.
كما أطلق الاتحاد الأوروبي للسياحة برنامجًا واحدًا فقط يستهدف تونس حصريًا بميزانية إجمالية قدرها 1208 مليون يورو، مما يعزز تفعيل “الاستراتيجية الوطنية للهجرة” في تونس. تهدف هذه الاستراتيجية إلى دعم “إدارة الهجرة” للحكومة التونسية وتوسيع برامج المساعدة والحماية للاجئين ومنع الهجرة غير النظامية.
بالإضافة إلى ذلك تشارك تونس في ثمانية مشاريع إقليمية بتمويل من EUTF. وتشمل هذه المشاريع حماية وإدماج اللاجئين وإعادة دمج المرحلين، فضلاً عن برامج تهدف إلى توسيع ما يسمى ببرامج العودة “الطوعية”. ومع ذلك فإن غالبية أموال الاتحاد الأوروبي المتدفقة إلى تونس يتم توجيهها إلى مشاريع لتعزيز أمن الحدود وقدرات الرقابة للسلطات التونسية بالإضافة إلى توفير التدريب والمعدات لوكالات إنفاذ القانون التونسية.
بحسب موقعه على الإنترنت فإن المركز الدولي لتنمية سياسات الهجرة في تونس يدير برنامجا إدارة الحدود في المغرب العربي (BMP-Maghreb) و يتم تمويله بإجمالي 55 مليون يورو ويهدف إلى مكافحة الهجرة غير النظامية في المغرب وتونس وتعزيز ” قدرات إدارة الحدود “للسلطات المختصة في كلا البلدين.
وتم تخصيص 20 من أصل 55 مليون يورو من أموال المشروع لتونس 70 ٪ منها، وفقًا لمكتب المركز الدولي لتنمية المشاريع في تونس وسيتم استثمارها في شراء المعدات والبنية التحتية وحدها.
وبدورها قامت ألمانيا باحداث “برنامج الإدارة المتكاملة للحدود” لتنفيذ استراتيجية عنوانها “سياسة وطنية منسقة للإدارة المتكاملة للحدود” وتتمثل في إنشاء مراكز تدريب مشتركة بين الوكالات في شمال وجنوب تونس وتدعم السلطات الأمنية التونسية وتقوم بدورات تدريبية لها.
وتشارك تونس في برنامج “إدارة أفضل للهجرة ” الذي يموله الاتحاد الأوروبي، يوروميد “بوليس 4” (الذي يشمل تبادل المعلومات مع اليوروبول والمراقبة الإلكترونية) والمشروع الإقليمي لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة “تفكيك الشبكات الإجرامية العاملة في برنامج شمال أفريقيا.
ازدهار الاتجار بالبشر في تونس
ومع تزايد أعداد المهاجرين غير النظامين في تونس وبحثهم المتواصل عن رحلات تنقلهم إلى سواحل أوروبا بمبالغ مالية، تزدهر ظاهرة الاتجار بالأشخاص وخاصة في المدن الساحلية التي تنطلق منها قوارب الهجرة نظرا لهشاشة المنظومة الأمنية فيها.
وباتت عمليات تنظيم رحلات "الحرقة" في بعض المدن التابعة لولاية صفاقس خبزا يوميا لآلاف العناصر من مافيا تهريب البشر، وأصبحت الكثير من المعتمديات هناك وجهة للمهاجرين التي يقيمون فيها لفترات قبل حلول موعد الرحيل.
أزمة صحية تهدد البلاد
لم تقف النتائج المترتبة عن السياسة الأوروبية المعتمدة عند الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بل إن الأزمة باتت تهدد الوضع الصحي في البلاد وتغرق البلاد في عجز تام عن دفن جثث المهاجرين الذين لقوا حتفهم في عرض البحر الأبيض المتوسط.
وتشير الإحصائيات الرسمية في شهر أفريل من عام 2023 إلى وجود 200 جثة لمهاجرين في مستشفى صفاقس وتجاوز الطاقة القصوى لبيت الموتى ب35 جثة.