لم يهدأ الصراع الإيديولوجي في الساحة السياسية في تونس طيلة هذه السنوات، وبقي في حالة مدر وجزر، فأحيانا ينقسم نفس التيار الفكري السياسي ويتحول الحلفاء ذوو المرجعيات الإيديولوجية المتقاربة إلى خصوم بعد أن كانوا حلفاء جمعتهم بعض التوجهات الفكرية.
في تونس ما بعد الثورة، تنوعت جبهات الصراع الإيديولوجي من المهد إلى اللحد، وبعد أن كانت الخصومة المبنية على طبيعة هذا الصراع في مرحلتها الأولى بين إسلاميين ويساريين وقوميين وبورقييبين وتوحّد فيها أبناء الطيف الواحد، استبدت في مرحلتها الثانية بكل تيار فكري، فلم يسلم الإسلاميون منها، وانقسموا إلى متحزبين وسلفيين، كما لم ترحم هذه الخصومة أبناء اليسار وانقسمت الجبهة الشعبية اليسارية بسبب الصراع التاريخي بين حزب العمال وحزب الوطد، ونفس هذا الصراع بدت معالمه اليوم واضحة بين القوميين الداعمين للرئيس سعيد.
وفي تونس ما بعد 25 جويلية، تحوّل الصراع صلب الجبهة السياسية المناصرة لسعيد بين البورقيبيين من جهة والقوميين من جهة أخرى حول هوية الدولة، إلى صراع جد اليوم بين القوميين حول المناصب في مؤسسات الدولة.
وبعد أن تنازع أستاذا القانون الدستوري أمين محفوظ والصادق بلعيد مع حركتي الشعب والبعث حول الفصول الدستورية المتعلقة بهوية الدولة، وانتصر قيس سعيد للقوميين باقراره (بإقراره) أن تونس جزء من الأمة العربية، ظهرت اليوم مؤشرات جديدة للصراع بين الداعمين للرئيس وتحديدا بين حركة الشعب وحركة البعث.
ولئن لم يتضح (يظهر) بعد هذا الصراع للعلن، إلا أن مؤشراته كثيرة وكشفت عن تجدد الصراع بين الناصريين والبعثيين تحت قبة السلطة التشريعية في تونس.
وأحيت العملية السياسية التي تعلقت بانتخاب رئيس برلمان في تونس الصراع التاريخي بين البعثيين والناصريين من خلال عمل أحد التيارين القوميين على عدم نيل تيار آخر لمنصب رئاسة البرلمان، وبرز ذلك في عملية اختيار رئيس مجلس نواب الشعب المنتخب من خلال بذل أبناء حركة البعث مجهودات كبيرة لمنع حركة الشعب ذات التوجه القومي الناصري من نيل رئاسة البرلمان.
وفي حين سعت حركة الشعب جاهدة إلى كسب رئاسة البرلمان، عملت حركة البعث جاهدة على تجميع عدد هام من أصوات النواب للتصويت لعميد المحامين السابق إبراهيم بودربالة ودعمته في اتصالاته مع عدد هام من النواب لاقناعهم بضرورة التصويت له.
ولدى حركتي الشعب والبعث تمثيلية في البرلمان متباعدتان في الأوزان، حيث تحصلت حركة الشعب على 11 مقعدا في الانتخابات التشريعية في حين اكتفت حركة البعث بمقعد واحد.
وكلا الحزبين داعمان لمسار 25 جويلية وللخيارات التي انتهجها رئيس الجمهورية قيس سعيد وكانا قد شاركا في جلسات صياغة دستور 2022 بدار الضيافة بقرطاج.
وحركة الشعب هي حزب ذو توجه ناصري. ترجع جذورها إلى مجموعة الوحدويين الناصريين بتونس، أما حركة البعث فهي حزب يرتكز على الاشتراكية والقومية العربية يمثل التيار البعثي في تونس وينافسها في نفس التوجه الإيديولوجي حزب الطليعة العربي الديمقراطي.
وربما التفت كل من حركة الشعب وحركة البعث على خيارات الرئيس قيس سعيد لكونه، من وجهة نظرهم، حاملا للفكر القومي العربي خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وكل ما يتعلق بالقضايا العربية.
والصراع بين التيارات القومية في تونس ليس حديث الولادة، وخلافاتهم جزءتهم إلى أحزاب عديدة، أكبرها حركة الشعب وحزب التيار الشعبي وحركة البعث وحزب الطليعة، والمثل الشعبي التونسي "الفلّوس ما ينقب كان عين خوه ينطبق على القوميين في تونس وخارجها".