هل بمقدور اقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء الصمود في وجه الصدمات الاقتصادية العالمية؟

بعد التعافي الاقتصادي القوي من صدمة الجائحة في عام 2020، استفادت بعض الأسواق الحدودية في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء من "إعادة الانفتاح العالمي الكبير" في عامي 2021 و2022. وسمح إنهاء عمليات الإغلاق الرئيسية والمتكررة أو غيرها من تدابير التباعد الاجتماعي الصارمة في إفريقيا جنوب الصحراء بتعافي النشاط والاستهلاك المحلي، مما عزز التوسع الاقتصادي الإقليمي.

ولكن، بدأت العوامل الدافعة الناتجة من عملية إعادة الانفتاح في التلاشي خلال الربعين الماضيين وحلت محلها الآن عوامل سلبية ناجمة عن الأوضاع العالمية، خاصة مع تباطؤ النمو العالمي، وارتفاع أسعار السلع، واستمرار البنوك المركزية الرئيسية في رفع أسعار الفائدة. غالباً ما يفرض ارتفاع تكاليف الاستيراد وتشديد الأوضاع المالية الدولية ضغوطاً على الموازين الخارجية للأسواق الحدودية الهشة. ولذلك، تتزايد أهمية متابعة مختلف المقاييس المرتبطة بقابلية التأثر بالعوامل الخارجية في اقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء. 

سنقوم بتقييم قابلية التأثر بالعوامل الخارجية من خلال بعدين: ميزان الحساب الجاري والمستوى العام للاحتياطيات الرسمية للعملات الأجنبية. تضطر البلدان التي تعاني من عجز في الحساب الجاري إلى تمويله إما برأس المال الأجنبي أو بالسحب من ثروة العملات الأجنبية الخاصة بها. خلال أوقات الشدة، عندما تكون الظروف الاقتصادية أو المالية العالمية صعبة، يمكن أن تتراجع تدفقات رأس المال أو تعكس مسارها، مما يزيد من صعوبة تمويل العجز دون السحب من أصول العملات الأجنبية. ولذلك، فإن أرصدة الحسابات الجارية تُعتبر مقياساً مهماً لتقييم مدى تعرض البلدان لتدفقات رأس المال وقابلية المخاطرة. يوضح الرسم البياني أدناه مستوى احتياطيات العملات الأجنبية مقابل العجز المتوقع في الحساب الجاري لعام 2023 في اقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء.

يتعمق تحليلنا في وضع الحساب الجاري واحتياطيات العملات الأجنبية في أكبر أربعة اقتصادات حدودية أو ناشئة في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، وهي نيجيريا وجنوب إفريقيا وأنغولا وكينيا، مع استخلاص استنتاجات حول قدرتها على الصمود في وجه الصدمات العالمية أو الإقليمية المحتملة.
غالباً ما يتم تفسير الاختلاف في قابلية التأثر بالعوامل الخارجية في أكبر اقتصادات بلدان إفريقيا جنوب الصحراء حالياً من خلال تحديد حالة كل بلد من حيث كونه مستورداً أو مُصدراً صافياً للسلع الأساسية. تميل البلدان المصدرة الصافية للسلع الأساسية، مثل نيجيريا وأنغولا، إما إلى تجميع المزيد من احتياطيات العملات الأجنبية بمرور الوقت أو تحقيق فوائض في الحساب الجاري. وعلى النقيض من ذلك، يتسم المستوردون الصافيون للسلع الأساسية، مثل جنوب إفريقيا وكينيا، بمراكز خارجية أقل ملاءمة.

تعتمد مرونة نيجيريا الحالية على قوة أسواق السلع على مستوى العالم. ويعتبر البلد أكبر مصدر للنفط في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء ومصدر رئيسي للمنتجات الزراعية، مثل الكاكاو والمطاط وزيت النخيل، وكذلك المعادن الصلبة، مثل القصدير والحجر الجيري. ويستمر ارتفاع أسعار السلع في دعم تمويل واردات البلاد المتزايدة، حتى في ظل استمرار انخفاض الإنتاجية وعدم تنفيذ الإصلاحات الهيكلية بالوتيرة والمستوى الأمثل. جمعت نيجيريا 37 مليار دولار أمريكي كاحتياطيات من العملات الأجنبية الرسمية، وهو ما يغطي بشكل مريح عجز الحساب الجاري الذي يُتوقع أن يبلغ 4 مليار دولار أمريكي هذا العام.

في حين أن مستوى احتياطيات العملات الأجنبية في أنغولا منخفض نسبياً عند 14 مليار دولار أمريكي، فمن المتوقع أن تحقق الدولة فائضاً في الحساب الجاري يبلغ حوالي 7 مليار دولار أمريكي في عام 2023. ويرجع ذلك إلى ازدهار صادرات النفط. يوفر ارتفاع أسعار النفط لأنغولا مكاسب مفاجئة في الإيرادات. ويسمح هذا الأمر للبلد بالاستثمار بمعدل معقول وربما تكوين المزيد من احتياطيات العملات الأجنبية خلال الأرباع العديدة القادمة. 

تعد جنوب إفريقيا مقترضاً خارجياً رئيسياً، مما يعني أنها تعاني من عجز في الحساب الجاري. في حين تُعرف جنوب إفريقيا بكونها مصدراً للسلع الأساسية الرئيسية، مثل الذهب والبلاتين والفحم وخام الحديد والماس، فإن ذلك يُقابل بحاجة أكبر إلى استيراد سلع أخرى، لا سيما النفط والمنتجات ذات الصلة بالأغذية. ومن ثم، فإن معدلات التبادل التجاري الخاصة بالبلد آخذة في التدهور، مما يضع السلطات الاقتصادية تحت الضغط. وتعد جنوب إفريقيا، الدولة الكبيرة الوحيدة في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء التي تعتبر سوقاً ناشئة وليست سوقاً حدودية، أكثر عرضة للتأثر بمعنويات المستثمرين الأجانب وقد تضررت جراء تشديد الأوضاع المالية العالمية واضطرابات أسعار الصرف الأجنبي. وتبلغ الاحتياطيات الرسمية لجنوب إفريقيا 60 مليار دولار أمريكي. وبينما يعتبر هذا المبلغ أكثر من كافٍ لتغطية عجز الحساب الجاري المتوقع البالغ 4 مليارات دولار أمريكي لهذا العام، فإنه يغطي حوالي 60% فقط من الدين الخارجي قصير الأجل للبلاد.

تعتبر كينيا هي الأخرى مقترضاً خارجياً رئيسياً، وتعاني من عجز هيكلي في الحساب الجاري لسنوات. تدهورت الأوضاع في الأرباع الأخيرة مع تضخم فواتير الواردات في ظل ارتفاع أسعار الطاقة، والتي لا يمكن تعويضها بصادراتها من تصنيع المنسوجات والشاي والقهوة ومنتجات البستنة. تتعرض البلاد لضغوط وستحتاج إلى سن تدابير قوية لإعادة التوازن من أجل تجنب أزمة أكثر حدة في ميزان المدفوعات. وسيتطلب هذا الأمر على الأرجح تقليصاً للواردات وانخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي. ويعد مستوى احتياطيات كينيا من العملات الأجنبية محدوداً عند 8 مليار دولار أمريكي، وهو بالكاد يغطي عجز الحساب الجاري المتوقع البالغ 7 مليار دولار أمريكي.

بشكل عام، بينما لا تزال اقتصادات بلدان إفريقيا جنوب الصحراء معرضة للخطر، فإن الاتجاهات العالمية، مثل استمرار ارتفاع أسعار السلع على الرغم من ارتفاع أسعار الفائدة، يمكن أن تكون مفيدة مستقبلاً للدول الرئيسية المصدرة للسلع في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، مما سيعزز قدرتها على الصمود أمام المزيد من التقلبات والصدمات الاقتصادية. ومن ناحية أخرى، ستستمر هذه الاتجاهات نفسها في زيادة مدى تأثر الدول الرئيسية المستوردة للسلع في تلك المنطقة. 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.