منظومة تزكيات الترشّح للانتخابات التشريعية: عندما يتحوّل الحلّ إلى مشكل

رواء حجي-

في 17 من أكتوبر 2022، انطلق العد العكسي لليوم الانتخابي بالدخول في المرحلة الثانية من المسار الانتخابي الذي ستتغير بعض ملامحه بمقتضى المرسوم عدد 55  لسنة 2022.
أثار هذا المرسوم الانتخابي مخاوف عدة منظمات وخبراء لانعكاساته على سير وشرعية الاستحقاق الانتخابي المرتقب، خاصّة وأن التّعديلات المدرجة ترجمت تمثّلات الرئيس ورؤيته للعملية السياسية التي عمل على تفعيلها منذ انفراده بالسلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية. ولعلّ أبرز النقاط جدلية مسألة التزكيات كشرط للترشح في الانتخابات التشريعية.
على ماذا تقوم منظومة التزكيات ؟ ماهي الصعوبات التي واجهها المترشحون.ات في جمع التزكيات ؟ وماهي عقوبات الاخلالات المتعلقة بها؟

يوم الإثنين 17 أكتوبر 2022، على السّاعة الثامنة صباحا، فتح 27 مركزا لقبول ترشحات الإنتخابات التشريعية أبوابه في كامل تراب الجمهورية.
في هذه الأثناء و قصد إيداع ملف ترشحه، توجه رضا السحباني إلى دار الثقافة شيخ إدريس ببنزرت أين تحولت أحد قاعاتها إلى مركز لقبول الترشحات تشرف عليه الهيئة الفرعية اللانتخابات. 
"كنت اوّل من أودع ملف ترشحه عن دائرة جومين غزالة سجنان. أديت هذه العملية بكل أريحية  ودون تسجيل أي نقص في الوثائق المطلوبة. تمكنت أيضا من جمع التزكيات كاملة. هذه العملية تتطلب تخطيطا منظما يقتضي من البداية تحديد كتلة مستهدفة قادرة على منح التزكيات." 
ويذكر محدّثنا أنه خاض تجربتين سابقتين في الانتخابات التشريعية والانتخابات البلدية، العامل الذي خوّل له إيداع ملفه في الآجال المحدّدة.

يعتبر السحباني من المترشحين القلائل الذين استكملوا ملفات ترشحهم في اليوم الأول، إذ واصل مترشحون آخرون تجميع التزكيات المطلوبة دون إيداع ملفاتهم أو إيداعها دون التزكيات والوثائق المستوجبة الأخرى قصد استكمالها قبل انتهاء فترة قبول الترشحات.
وإلى حدود اليوم الخامس من هذا المسار فإن 50% من مطالب الترشّح للانتخابات التشريعية كانت غير مستوفاة للوثائق وللتزكيات، وفق بلاغ نشره مركز شاهد  لمراقبة الانتخابات ودعم التحولات الديمقراطية، السبت 22 أكتوبر 2022.

منظومة تزكيات في مواجهة الانتقادات    
يفرض المرسوم عدد 55 في فصله 21 على المترشح مدّ الهيئات الفرعية للانتخابات بقائمة إسمية تضم 400 توقيع لمزكين ينتمون إلى نفس دائرته الانتخابية.
وتندرج  قائمة التزكيات هذه ضمن عدّة مرفقات أخرى جاءت بها التعديلات الأخيرة للقانون الانتخابي كالبطاقة عدد3 وشهادة في إبراء الذمّة من الآداءات البلديّة وغيرها من الوثائق، إلاّ انها كانت أكثر الشروط التي جوبهت بالانتقادات والتشكيك في جدواها رغم  اعتمادها سابقا في الانتخابات الرئاسية أيضا.


عن مدى مشروعية اعتماد التزكيات كشرط للترشح في الانتخابات التشريعة، يشرح أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار  "بأن منظومة التزكيات تقدّم كوسيلة لإضفاء نوع من المعقولية والترشيد لعملية الترشح، إضافة إلى كونها منظومة تترجم التّوجه نحو تلقّي عدد محدود للترشحات".

ويضيف المختار أن مسألة الترشحات مرتبطة بمدى تلاؤمها مع المنطق الدستوري. وأنّ الفصل 55 من الدستور يفرض فعلا وجود تناسب ما بين الحق وما بين القيد، مفسّرا أن الحق هو حق الترشح في هذه الحالة، أما القيد فهو التزكيات مع شروط أخرى. مذكّرا في هذا الصّدد بأن الهيئة الوقتية لرقابة دستورية القوانين قبلت فكرة التزكيات وأشارت إلى أنها ترشد ولا تحدّ من حق الترشح.

ويعود المشكل الذي تطرحه الترشحات بحسب أستاذ القانون الدستوري إلى وجود تناسب من عدمه بين العدد المطلوب من التزكيات مع فكرة حقّ الترشح في حد ذاتها. ويختم بالقول أن العدد المذكور بتعقيداته لم يقود إلى ترشيد حق الترشح وإنّما إلى تعقيده والمسّ به وانتهاك روحه، وفق تعبيره.
وبالعودة إلى نص المرسوم عدد 55، فإن التعقيدات المرتبطة بمنظومة التزكيات تتعلق بالأساس بشروط قبولها وخضوعها لقاعدة النسبية أي أن يكون المزكين مسجلين في الدّائرة الانتخابيّة المترشح عنها وأن يكون نصف المزكّين من الإناث والنّصف الثّاني من الذكور، على أن لا يقلّ عدد المزكّيات والمزكّين من الشّباب دون سنّ الخمس والثّلاثين عن 25 %.
ومن الشروط الأخرى أن لا يزكّي الناخب أكثر من مترشّح واحد، إضافة إلى أن تكون التزكية معرّف عليها بإمضاء المزكّين لدى ضابط الحالة المدنيّة أو لدى الهيئة الفرعيّة للانتخابات المختصّة ترابيّا.

التعريف بالامضاء: حلّ للحدّ من التّدليس وكابوس يؤرق المترشحين
"جاء شرط التزكيات إنطلاقا من فكرة الحدّ من عدد الترشحات لضمان جدية المترشحين.ات لكن على العكس من ذلك، كل ما حدث هو تعقيد الأمر على المترشحين.ات.  ثمة العديد من المثقفين والمنخرطين في الحياة العامة والسياسية منذ سنوات يجدون صعوبة كبيرة اليوم في التّحدث مع النّاس وحثّهم إلى تزكيتهم ومصاحبتهم إلى ضابط الحالة المدنية، لأن الأمر بكل بساطة يتطلب موارد بشرية ومالية ولوجيستية يحظى بها صنف معيّن من المترشحين.  فحتّى التعامل مع المقاهي والدكاكين كوسيط بين المترشح والنّاخب يتم بمقابل مادي"  يحدّثنا أحمد الشواشي، أحد المترشحين عن دائرة المنيهلة، والمنسحب من السّباق الانتخابي بسبب اكتظاظ جدول عمله كأستاذ تعليم  ابتدائي .

حذامي الشنيتي مترشّحة عن دائرة منزل بورقيبة تينجة، هي الأخرى مثّل لها شرط التعريف بالإمضاء صعوبة كبرى لإستكمال 400 تزكية. فبعض الأشخاص الذين سعت إلى  حثّهم على تزكيتها يعزفون عن هذه العملية لعدم تلاؤم توقيت عملهم مع التوقيت المخصّص للتعريف بالإمضاء أو لبعد المسافة بين مقر سكناهم والمعتمدية أو البلدية.
بالنظر إلى التجربة التونسية مع مسألة التزكيات، نفهم أن شرط التعريف بالإمضاء كضامن لقانونية التزكيات لم يأت من فراغ، بل هو مدخل للحدّ من عمليات التزوير بهدف تفادي الوقوع في تجاوزات سجلتها الانتخابات الرئاسية السابقة لسنتي 2014 و2019، على حد سواء.

وتعلّقت أغلب هذه التجاوزات بشبهات في اعتماد تزكيات وإدراج بطاقات تّعريف وهميّة وأخرى تعود إلى أشخاص في السّجن وخارج البلاد في ملفات بعض المترشحين، حيث ذكر عدد من المواطنين لمنظمة أنا يقظ ورود أسمائهم ومعطياتهم الشخصية في قائمات تزكيات لمرشّحين دون الحصول منهم على تصريح بالاستعمال.
ورغم مرور سنوات على هذه الحادثة لم تصدر أحكام قضائية إلى حدّ الآن ضد هؤلاء المترشحين، وإنّما تم السّماح لاستمرار ترشّحهم.

يذكّر أستاذ القانون الدستوري محمد عطيل ظريف بأنه تم الاكتفاء في الانتخابات الرئاسية السّابقة بوضع أرقام بطاقات التعريف ليقع فيما بعد التّثبت من صحّة هذه التزكيات بصعوبة. ويقول إن إعتماد وثيقة تزكية المترشح الحاملة لإمضاء معرّف بالبلدية أو المعتمدية أصبحت تخوّل سهولة التّثبت من صحتها، وإنه بات من العسير تزوير التزكية بفضل هذه الخطوة.

أنموذج لوثيقة التزكية

لئن يبدو شرط التعريف بالإمضاء في ظاهره حلا جذريا لمسألة التزكيات فإنه في باطنه يمثّل مشكلا معرقلا لعملية إيداع ملفات الترشح قبل استيفاء الآجال، وذلك لارتباطه الوطيد بعوامل خارجية متصلة بالبيئة الاجتماعية التونسية.
ويترأس المستوى الاجتماعي للمواطنين وتباين خصائص مناطق عيشهم هرم قائمة هذه العوامل المعرقلة لتنقلهم إلى الأماكن الموكولة إليها إجراءات التعريف بالإمضاء.
سفيان حزي، ناشط في المجتمع المدني أراد الترشح عن دائرة جندوبة الشمالية وفرنانة، يعتبر أن عملية جمع 400 تزكية معرفة بالإمضاء شرطا تعجيزيا خاصّة في الدوائر الانتخابية التي تظم معتمدية أو أكثر وتكون هذه المعتمديات ذات مناطق مترامية الأطراف أو مناطق ريفية.

" وفقت في الحصول فقط على 187 تزكية، فرجحت عدم إكمال اجراءات ايداع ملف ترشحي. في منطقتنا، يمثّل مشكل التنقل من القرى إلى المدن عائقا كبيرا للمترشح. على سبيل المثال تبعد المناطق الحدودية كمنطقة حليمة بفرنانة عن مكاتب التعريف بالإمضاء أكثر من 45 كيلومترا."

ويضيف حزّي أنه من الطبيعي في هذه الحالة أن يطلب المزكي مقابلا ماديا لسدّ كلفة التنقل. إلا أن العملية الانتخابية تقتضي أن يقدم المواطن تزكيته عن طواعية حتى لا يدخل المترشح في متاهات توظيف المال السياسي. بالإضافة إلى أن الشباب كأكثر فئة فاعلة في الحياة العامة، يزاول معظمهم عملهم أو دراساتهم الأكاديمية في ولايات أخرى. وهوعامل يجده محدّا لعدد المزكين.    
ويتساءل محدّثنا: كيف يمكن لأكثر من شخص واحد أن يترشح في نفس المنطقة، في ظل هذا العدد المحدود من المزكّين المتواجدين ببعض الدوائر الانتخابية؟ 

دوائر انتخابية تطمس مبدأ تكافؤ الفرص بين المترشحين
جاء المرسوم الانتخابي عدد 55  بتقسيم جديد للدّوائر الانتخابية ليرتفع عددها إلى 161 دائرة انتخابية عوضا عن 33. وتنقسم هذه الدوائر المحدثة إلى 151 دائرة بالداخل و 10 بالخارج.
ومن الانتقادات التي وجهت لهذا التمشي أنه خلق دوائر انتخابية متفاوتة يطغى على بعضها المناطق الريفية غير البلدية وعلى البعض الأخر المناطق الحضرية، إلى جانب عدم التوازن في العدد السكاني من دائرة إلى أخرى. 
أثبت هذا التقسيم حدوده وضعفه وعدم جدواه على أرض الواقع منذ انطلاق فترة قبول الترشحات حيث طمس بتفاوتاته المذكورة مبدأ تكافؤ الفرص بين المترشحين في الحصول على التزكيات المطلوبة.
على سبيل المثال: يبلغ عدد النّاخبين الأولين في دائرة بنزرت الشمالية حوالي ضعف الناخبين الأوليين بدائرة بنزرت الجنوبية، وفق احصائيات تم نشرها بالموقع الالكتروني للهيئة العليا المستقلة للانتخابات بتاريخ 26 سبتمبر 2022.

هذا يعني أن المترشح عن دائرة بنزرت الجنوبية سيحتاج جهدا أكثر لجمع عدد التزكيات بشروطه المذكورة آنفا خاصة وأن الناخب لا يزكي أكثر من مترشّح واحد. هذا وبالاضافة إلى ارتفاع عدد السّكان بالمناطق غير البلدية بدائرة بنزرت الجنوبية حيث تبلغ 25862 مقابل 3467 ساكن بالمناطق غير البلدية في دائرة بنزرت الشمالية، مما يجعل أمر تنقل هؤلاء الناخبين إلى البلدية أو المعتمدية لتقديم تزكياتهم أمرا معقّدا يتطلب موارد لوجستية ومالية أكبر.
في هذا الإطار يقول المدير التنفيذي لمرصد شاهد لمراقبة الانتخابات ودعم التحولات الديمقراطية ناصر الهرابي:" منذ صدور المرسوم عدد 55 رأينا أن هذا التقسيم لا يخضع إلى أي معيار كمعيار الكثافة السكانية أو المجال الترابي أو الجوار بين المعتمديات." 

ويشدّد الهرابي أنه بحسب ما تمت ملاحظته في الأيام الماضية شكّل هذا التقسيم عائقا بالنسبة للمترشحين نظرا لتميز بعض الدوائر بصغر مساحتها وضيقها. معتبرا أن الدوائر الضيقة تساهم في الحدّ من عدد الترشحات لأن منظومة التزكيات تقتضي أخذ إمضاءات من محيط واسع.

فيديو: تصريح للمدير التنفيذي لمرصد شاهد:

المترشحة عن قفصة الجنوبية حذامي تاج، تقول إن عملية جمع التزكيات لم تكن بالأمر الهيّن. وأن الجيد في الترشّح عن  دائرتها الانتخابية كونها منطقة حضرية، وبالتالي فإن مشكل تنقل المزكين أو المترشحين إلي المعتمدية أو البلديات لم يكن مطروحا بالنسبة إليها.

 " يوجد في دائرتنا القليل من المناطق الريفية، حرم سكان هذه الأماكن من المشاركة في عملية تقديم التزكيات. أنا إحدى المترشحات اللاّتي لم يصلن إلى هذه الشريحة." تفسّر المترشحة عن قفصة الجنوبية.
لكنّها في المقابل ترى أن شرط التزكيات استراتيجية ذكية تساهم في الحدّ من  نسبة عزوف  المواطنين.ات عن الشأن السياسي، لأنها خوّلت للمترشحين.ات التواصل مع الناخبين وحثّهم على المشاركة في الاستحقاق الانتخابي القادم.

عزوف يقلص عدد التزكيات:
في حقيقة الأمر عند الوقوف على نسب إقبال المواطنين.نات على المشاركة في الانتخابات التشريعية السابقة منذ الثورة إلى اليوم نكتشف تراجعا ملحوظا في هذه النسب مثلما يبيّن الرسم البياني.

ووفق استطلاع رأي نشرته صحيفة المغرب المحلية سنة 2020 فإن قرابة 74.4 بالمئة من التونسيين لا يعبرون عن نوايا تصويتهم في التشريعيات المقبلة. ومايمكن أن يعزز نسبة هذا العزوف مقاطعة عدة أحزاب وأطراف سياسية مسار 25 جويلية. الأمر الذي يجعلنا نتساءل كيف يمكن لمترشح أن يقنع ناخبا عازفا عن ممارسة حقه في الاقتراع الذي يكون عادة بمدرسة متواجدة ضمن دائرة الحي الذي يقطنه بالتنقل ربما عشرات الكيلومترات لتزكيته؟

المترشحات هن الأقل حظوظا في جمع التزكيات    
علاوة على هذا الماراطون الذي يخوضه كل مترشح للانتخابات التشريعية تواجه المتشرحات الإناث تحديات إضافية فقط لكونهن نساء.
بخطى سريعة تتقدم أميمة السحباني مكتب قبول الترشحات حاملة بيدها ملف ترشحها عن دائرة ماطر أوتيك فلم يتبقى في يدها سوى سويعات قليلة ويغلق باب قبول الترشحات أبوابه.
استغرقت عملية إيداع ملفها حوالي 20 دقيقة، ثم غادرت مكتب التسجيل وعلى محياها ابتسامة طفيفة.
"تم إعلامي الآن أن الهيئة قررت تمديد آجال قبول الملفات ثلاثة أيام أخرى سأعمل إثرها على جمع بقية التزكيات" تقول باحثة الدكتوراه في القانون وصاحبة 27 سنة.   
وتوضّح لنا انطلاقا من تجربتها أن المرأة لم تكن من أصحاب الحظوظ الكبرى في عملية جمع التزكيات. وأنه في بعض الأحيان تكون المرأة نفسها غير داعمة للمرأة المترشحة. 

" تحتل المناطق الريفية في معتمدية ماطر مساحة لا بأس بها، عندما أحدّث نساء أخريات عن رغبتي في خدمة منطقتنا والنهوض بها لا يولين إهتماما لكلماتي. إضافة إلى صعوبة تنقّل النّساء الريفيات إلى المعتمدية أو البلدية لأسباب مادية أو لكثرة المسؤوليات التي تثقل كاهلهن." بهذه العبرات تروي لنا أميمة السحباني تجربتها مع عملية جمع التزكيات.

فيديو لمترشحين.ات تقدّموا بمطالب ترشحهم للمنافسة في السباق الانتخابي:

في الواقع، مثل هذه الشهادات لا تمثّل مفاجئة للمنظمات النسوية لأنها منذ صدور المرسوم عدد 55 ما انفكّت تشير إلى مخاطره في المسّ من الحقوق السياسية للنساء وإضعاف مشاركتهن في الحياة السياسية.
في هذا الشأن، تعتبر نائبة رئيسة رابطة الناخبات التونسيات تركية بن خضر، عملية تجميع 400 تزكية من الإشكالات التي طرحها هذا المرسوم لعدم امتلاك النساء والشباب الموارد المالية الكافية للتنقل وجمع العدد الكافي من التزكيات، إلى جانب العراقيل المعنوية والعنف السياسي والعقلية المخيرة للرجل على المرأة في المناصب القيادية.

"بالنسبة إلى النساء المترشحات المتمتعات ببرامج تكوين رابطة الناخبات التونسيات اشتكين من صعوبة جمع التزكيات لقلة مواردهن المالية".
وترى بن خضر أنه ما زاد من تعقيد المسألة إلغاء التمويل العمومي الذي كان يسّهل المأمورية على النساء والشباب  باعتباره حافزا لتشريكهم في الحياة السياسية. وتخلًص إلى أنّه من يمتلك المال هو من يكسب قاعدة تزكية، إذ أصبح المال يعتلي الكفاءة. 

حملة ما قبل الحملة الانتخابية
في العادة، تطرح مسألة التمويلات والتباين في القدرات المالية بين المترشحين.ات وشبهات شراء الذمم والأصوات في فترات الحملات الانتخابية، وبما أن تونس تشهد مرحلة استثنائية يبدو أنها ألقت بضلالها على هذا الاستحقاق الانتخابي الذي جاء متفردا في قوانينه وتفاصيل تنفيذه، فقد تم تداول الحديث عن توظيف المال السياسي حتى قبل فتح باب قبول التّرشحات. 

إذ مثّل شرط الترشح ب400 تزكية تحدّيا للمترشحين الذين قرّر بعضهم وبعض داعميهم ضخ أموال أو إستغلال  مناصبهم لحث الناخبين على التزكية "بمقابل" أو" تحت الترهيب"، وفق تعبير رئيس الجمهورية.
أمر تطرقت إليه الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في بلاغ صدر لها بتاريخ 06 أكتوبر 2022، حيث أكدت أنه تم التفطّن إلى محاولات بعض الراغبين في التّرشح للانتخابات التشريعية في الحصول على تزكيات بطريقة غير قانونية، وذلك إما باستعمال الوسائل والموارد العمومية أو بتقديم مقابل نقدي أو عيني للحصول على تلك التزكيات، مشيرة إلى أن النيابة العمومية اذنت بفتح أبحاث والاحتفاظ بالمشتبه بهم. 

بعد يوم من تاريخ نشر البلاغ، تحدّث رئيس الجمهورية قيس سعيّد في لقاء جمعه مع رئيسة الحكومة نجلاء بودن عن مسألة التلاعب بالتزكيات لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب. وأشار إلى إمكانية تعديل القانون الانتخابي "إذا كان التشريع الحالي لم يحقق أهدافه" استجابة لما سماه بالواجب الوطني المقدس وذلك للحدّ من هذه الظاهرة المشينة المتعلقة بالمال الفاسد، وفق ما صرّح به.
توجّه عارضه رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر في أحد تصريحاته الإعلامية، مستبعدا إمكانية التراجع عن شرط التزكيات أو التخلي عنه بإعتبار أن العملية الانتخابية إنطلقت وأن الهيئة تلقت نحو 140 ألف تزكية، وأشار حين ذاك إلى إمكانية إدخال تحويرات بخصوص مسألة التعريف بالإمضاء أو عدد التزكيات إن اقتضت الضرورة.

 ومع انطلاق قبول ملفات الترشح يوم 17 من نفس الشهر، خرج فاروق بوعسكر مرة أخرى مؤكدا "غياب أي تنقيح جديد للقانون الانتخابي وأن الأوان قد فات  بعد انطلاق قبول الترشحات.''
ورغم إحالة أشخاص على النيابة العمومية على خلفية الاشتباه في شرائهم تزكيات تواصلت هذه الممارسات أيضا في فترة تقديم الترشحات. ولم ينته الأمر عند هذا الحدّ إذ يعمد بعض الأطراف أيضا إلى توظيف مناصبهم للتأثير في رأي الناخب أو استغلال موارد الدولة كإستعمال السيارات الإدارية لجمع التزكيات.

مريم ( فضلنا استعمال إسم مستعار حماية للمعطيات الشخصية لمحدثتنا) ناشطة في المجتمع المدني، توجّهت إلى أحد بلديات ولاية صفاقس أين كان من المزمع أن تلتقي رئيس البلدية. بعد طول انتظار تخلف هذا المسؤول عن الموعد.
" قبل هذه الحادثة بيوم أيضا عايشت السيناريو عينه. إلاّ أن هذه المرّة مكّنني الكاتب العام  من إتمام الوثائق المطلوبة. 
في الحقيقة تساءلت عن سبب غياب رئيس البلدية المتكرّر وأردت التحري في الأمر، أكتشفت أن هذا المسؤول يتغيب عن عمله لجمع تزكيات ترشّحه في الانتخابات التشريعية مستغلا في ذلك سيارته الادارية، وهو أمر لاحظه وتذمّر منه عدّة أشخاص في البلدية."

 وأردفت مريم قائلة إن هذا الأمر دفعها إلى الاتصال بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات عبر الموزّع الصوتي المخصص لإيداع التشكيات (1814) حتى تدعوهم إلى التّثبت من هذه المعلومة عبر الرجوع إلى تسجيلات الفيديو المتوفرة في البلدية.
 "ما راعني أن المتحدثة أعلمتني عدم اهتمام الهيئة بهذه التفاصيل وأن الأهم في الأمر أن الكاتب العام مكّنني من الخدمة المطلوبة. استغربت هذا الردّ، فأعدت الكرّة بعد يوم، حينها تحدثت معي موظفة أخرى وأعلمتني أن الهيئة ستعمل على التثبت من الأمر، وأنها ستتخذ الإجراءات اللاّزمة." توضّح محدّثتنا مستنكرة.

عقوبات تحتاج دّقة في تشريعها
وعن العقوبات المتعلّقة بالإخلالات والتجاوزات التي وقع رصدها إثر تجميع التزكيات، يعاقب القانون الانتخابي المعدّل بالمرسوم عدد 55 كلّ مترشح ثبت قيامه بتقديم عطايا نقديّة أو عينيّة قصد التّأثير على النّاخب، بفقدانه لعضويّته بمجلس نوّاب الشّعب وحرمانه من حق الترشّح مدى الحياة. كما تقضي بحرمان النّاخب المستفيد من العطايا من حقّه في الانتخاب لمدّة عشر سنوات كاملة. وتتمثّل حدود هذا التوّجه، وفق خبراء القانون، في كونه يرتكز على الترفيع في العقوبة عوض التركيز على جدواها.

في ذات السّياق، يقول أستاذ القانون الدستوري محمد عطيل ظريف إن الفصل 161 كان ينص قبل تعديله على أن يعاقب في السجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبخطية مالية من ألف إلى ثلاثة آلاف دينار كل شخص تم ضبطه بصدد تقديم تبرعات نقدية أو عينية قصد التأثيرعلى الناخب أو حمل الناخب على الإمساك عن التصويت سواء كان ذلك قبل الاقتراع أو أثناءه أو بعده.

ويضيف: " ألغى النص الجديد صفة التّلبس باستعمال عبارة "ثبت قيامه ب" عوضا عن  "بصدد". الأمر الذّي يمثّل لبسا في هذا السياق هو اعتبار  دفع معلوم  التنقل إلى البلدية أو المعتمدية ضمن العطايا النقدية أو العينية القاصدة إلى التأثير على الناخب من عدمه".


 ويشير إلى أن النص أيضا لم يأخذ بعين الاعتبار مسألة التأثير على الناخب بالتأثير السلبي أو بالتهديد من قبل أصحاب النفوذ مثلا.
"تطرّق المرسوم إلى موضوع التزكيات عبر إستعمال عبارة " قبل الاقتراع"هذا أمر واضح.  الإلتباس يكمن في عبارة "قصد التاثير على الناخب" فقد جاءت عامة.  وفق القانون الجزائي، يفرض مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات أن تكون الجريمة محدّدة بدقة. لذلك سيكون القرار في هذه الحالة حسب تأويل القاضي " يشرح لنا الظريف.

ويلفت محدّثنا الانتباه أيضا إلى مفارقة طرحها القانون الانتخابي بعد تعديله تتمثّل في إلغاء عقوبة التمويل الأجنبي لرئيس الجمهورية بخمس سنوات سجن والتّنصيص في المقابل على حرمان مواطن تلقى عطايا من ممارسة حقه الانتخابي لمدّة 10 سنوات.

في خضم كل هذه الهنات والمفارقات، يحبس اليوم عدد كبير من خبراء القانون وحركات سياسية ومنظمات وطنية ودولية أنفاسهم، تخوّفا من التركيبة البرلمانية التي ستولد من رحم مرسوم قلب موازين عملية الترشح، وغيّر ملامح منظومة الاقتراع، وساهم في خلق نتائج مثيرة للجدل منذ المراحل الأولى من مسار هذا الاستحقاق الانتخابي. فهل تحقق التحويرات التي أتى بها هذا المرسوم انتظارات التونسيين.ات الذين سئموا صّراعات وتجاذبات الأحزاب تحت قبة البرلمان؟ 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.