تحقيق: سماح الغرسلي
فقدت الأمل من هذا المشروع وتعبت من أكاذيب المسؤولين لتبرير عدم الانتهاء من أشغال تهيئة حديقة الشهداء بالقصرين. ولحد اليوم أنا أتألم لهذا المنظر الذي أصبحت عليه هذه الحديقة التي ترمز للنضال والثورة "، بهذه العبارات تحدث أحمد زرقي، أحد متساكني بلدية القصرين المدينة الذين اعتادوا في السابق ارتياد حديقة ساحة الشهداء لقضاء بعض الوقت فيها.
في قلب مدينة القصرين، قبالة قصر البلدية، توجد ساحة الشهداء أو "الجردة" كما تحلو تسميتها من قبل أهالي الجهة. ورغم وجود مساحات خضراء بكامل ولاية القصرين، تميزت هذه الحديقة بهذا الإسم، لكنها أصبحت نقمة بالنسبة للأهالي بعد أن صارت ترمز إلى المشاريع المعطلة بالولاية.
تعّود شباب وشابات القصرين صباحا على تنظيم وقفاتهم الاحتجاجية في" الجردة " للتعبير عن غضبهم والمطالبة بحقوقهم في الشغل والتنمية، ومساءا تُصبح الحديقة متنفسا لهم ومكانا يلتقي فيه أيضا كبار السن لتبادل أطراف الحديث والترويح عن أنفسهم. إلا أن كل ذلك أصبح من الذكرى على إثر ما تعرضت له الحديقة من تخريب ذهب بكل تفاصيلها القديمة.
يوثق هذا التحقيق تورط النيابة الخصوصية لبلدية القصرين المدينة (2011-2017) والجمعية الخلدونية في إهدار مال عمومي مخصص لإنجاز مشروع تهيئة حديقة الشهداء بالقصرين منذ 2013، دون أن يتم إنهاء المشروع إلى اليوم.
تفاصيل مشروع إعادة التهيئة
"مشروع تهيئة ساحة الشهداء/ بلدية القصرين" بهذا العنوان تحصلت الجمعية الخلدونية في جانفي 2013 على دعم مادي قيمته 377 ألف دينار من طرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي PNUD وجمعية البلديات الهولندية لتهيئة حديقة الشهداء. وللإشارة تأسست الجمعية الخلدونية يوم 26 جوان 2012 تحت تأشيرة (matricule fiscale) : 1257925SNN000 وحسب ما ذكر في سجلها التعريفي، فهي تهدف إلى البحث عن الوسائل المناسبة لتنمية مجتمع واع بتاريخه وإحياء الفكر التونسي والعمل لفائدة مجتمع عادل حر متضامن والتعريف بالحضارة التونسية وتاريخها وثقافتها وموروثها الحضاري، إضافة إلى إنتاج تصور فكري لمجمل السياسات العمومية وتشجيع الإبداع الأدبي والفني والمهن التقليدية التونسية.
وجاء هذا المشروع في شكل مبادرة "لتكريم أرواح شهداء القصرين عبر وضع نصب تذكاري يحمل أسمائهم وإعادة تهيئة الساحة الرئيسية"، حسبما جاء في الاتفاقية التي جمعت النيابة الخصوصية لبلدية القصرين والجمعية الخلدونية، والتي تحصلنا عليها عن طريق مطلب نفاذ للمعلومة تقدمنا به لبلدية القصرين المدينة بتاريخ 1 جويلية 2021.
وثيقة الاتفاقية
وقد قدرت تكلفة تهيئة الساحة بـ 198 ألف دينار وتكلفة ري الحديقة بـ 53 ألف دينار وتكلفة الإنارة بـ 126 ألف دينار، حسب الملف الفني للمشروع والذي تحصلنا على نسخة منه عن طريق مطلب النفاذ للمعلومة لبلدية القصرين المدينة بتاريخ مارس 2021.
وثيقة تكاليف المشروع حسب الملف الفني للمشروع
نموذج لمشروع تهيئة الحديقة
انطلقت أشغال التهيئة في أكتوبر 2013 بنسق عادي عبر الشروع الفعلي في أعمال الحفر وذلك طبقا للمثال الهندسي التي وضعته الجمعية الخلدونية وكلفت كل من المقاول مراد الشاوش للإشراف على مشروع التهيئة والمزود زياد الهرماسي لتوفير المواد المختلفة اللازمة للأشغال.
وجاء في تصريح نائب رئيس البلدية، رضا العباسي لموقع "التونسية .كوم"، بتاريخ 13 نوفمبر 2013 أن" مشروع التهيئة سيتم إنهاؤه خلال احتفالات الذكرى الثالثة لأيام الشهيد والتي تنطلق في 8 جانفي 2014"، مؤكدا أن الجزء المهم في المشروع هو الجانب الفني فيه "الذي سيُجسّد تاريخ القصرين وقائمة شهدائها وأبطالها من خلال نصب تذكاري يحمل أسماءهم، إضافة إلى ركح ذو مدارج ليحتضن مختلف العروض والتظاهرات الكبرى كما ستقع غراسة أشجار حمراء ترمز لدماء الشهداء".
في أفريل 2014، توقفت أشغال التهيئة وعند البحث عن الأسباب، اتضح أنه لم يقع توفير اعتمادات قدرها 120 ألف دينار تعهدت بها النيابة الخصوصية للمقاول.
وللإشارة فإن مقاول المشروع مراد الشاوش تم تكليفه بالقيام بأشغال إعادة تهيئة حديقة الشهداء بالقصرين عن طريق إستشارة أعدتها الجمعية الخلدونية، حسب قول رئيسها، تحت رقابة ممول المشروع أي برنامج الأمم المتحدة للتنمية بتونس.
وبعد البحث حول المقاول، تبين أنه كان وكيلا مؤسسا لشركة "ميلتي برودكت ٱند.سيرفيس" MPS حسب ما ورد في السجل الوطني للشركات بتونس وهي شركة ذات مسؤولية محدودة تكونت في تونس في 26 نوفمبر 2008 يمتلك منها 500 حصة اجتماعية، إلا أنه منذ مارس 2013 قدم إستقالته كوكيل حسب نفس السجل.
حسب السجل الوطني للشركات بتونس و هي شركة ذات مسؤولية
بالنظر إلى حجم رأس مال الشركة حسب ما ورد في السجل نفسه وطبيعة نشاطها المتعلق بإنتاج وتجارة الحجارة الطبيعية والمصنوعة، فإن كل هذه المعطيات لا تؤهلها للحصول على تراخيص المقاولات التي تسندها وزارة التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية.
وثيقة تسجيل الشركة في الرائد الرسمي
فحسب والي القصرين الأسبق، عاطف بوغطاس (28 فيفري 2014 إلى غاية 22 أوت 2015) فإن المقاول لم يكن يملك في تلك الفترة (2014-2015) ما يسمى ب agréement أي الترخيص الذي يؤهله للمشاركة في صفقات كبرى في التعشيب والمقاولات التابعة للحدائق، مما يقصيه من المشاركة في عدة صفقات عمومية، وهذا ما جعله يلجأ إلى الشراكة مع الجمعيات على غرار الجمعية الخلدونية لنيل فرصة العمل على مثل هذه الصفقات.
تحصل المقاول مراد الشاوش على مبلغ 121 ألف دينار من جملة 198 ألف دينار المبلغ المخصص لأشغال التهيئة للقيام بها، ولم يقع توفير باقي المبلغ المقدر ب 77 ألف دينار من طرف النيابة الخصوصية. كذلك لم توفر هذه الأخيرة مبلغا يقدر ب 53 الف دينار كتكلفة ري الحديقة والذي تعهدت بتقديم جزء منه، خاصة وأن تمويل الPNUD اقتصر على مبلغ قدره 25 ألف دينار في هذا الصدد، مما دفعه لإيقاف الأشغال.
أراد والي القصرين الأسبق، عاطف بوغطاس التدخل لمعرفة أسباب تعطل أشغال التهيئة، فاكتشف وجود تقصير من طرف النيابة الخصوصية لبلدية القصرين في توفير اعتمادات قدرها 120 ألف دينار تعهدت بها النيابة الخصوصية ولم يتم الإيفاء بها، وذلك حسب مراسلة للرئيس السابق للجمعية الخلدونية، سليم بن حسن إلى الوالي، بتاريخ 1 افريل 2014. وقد جاء فيها أن الجمعية تواجه إشكالية في التمويل بسبب عدم إيفاء النيابة الخصوصية بوعدها وتوفير المبلغ الذي تعهدت به، مما أدى إلى توقف الأشغال، كما طالب من خلال نفس المراسلة بإيجاد حل لهذا الإشكال عن طريق سلطة الإشراف حتى تُستأنف الأشغال.
مراسلة الرئيس السابق للجمعية الخلدونية سليم بن حسن
اقترح عاطف بوغطاس، كإجابة على تلك المراسلة وسعيا منه لفض الاشكال، تمكين الجمعية الخلدونية من مبلغ 100 الف دينار للتسريع في إكمال المشروع وتسليمه لسلطة الإشراف وذلك عبر إيجاد صيغة قانونية عبر اللجوء إلى مقتضيات الأمر عدد 5183 لسنة 2013 المؤرخ في 18 نوفمبر 2013 والذي يُجيز "إمكانية اللجوء إلى التمويل العمومي لفائدة جمعية قصد إنجاز مشروع لفائدة هيكل عمومي عن طريق منحة تُقدّم للجمعية من ميزانية الهيكل العمومي". وحسب ما أفادنا به الوالي الأسبق، فقد تعهد الرئيس السابق للجمعية الخلدونية، سليم بن حسن بإنهاء إنجاز المشروع في جانفي 2015 خلال فعاليات يوم الشهيد.
حملة "نحي الزنك" تكشف المستور
بعد عودة الأشغال في الأيام الأولى من شهر ماي 2014، إثر المنحة التي رصدتها ولاية القصرين والتي تقدر ب 100 الف دينار، انتظر جميع أهالي القصرين بفارغ الصبر إنتهاء إنجاز المشروع، إلا أن أشغال التهيئة توقفت من جديد وانسحب المقاول وطالت مدة تعطل المشروع حوالي سنة كاملة ولم تُستكمل كل عناصره. حسب السيدة حياة حليمي، التي كانت ملمة بحيثيات المشروع كناشطة بالمجتمع المدني ومهتمة بالشأن البلدي وهي تشغل حاليا كمساعدة ثانية ببلدية النور بالقصرين، فإن "تعطل المشروع كان بسبب نقص الموارد المالية وغياب التمويل. وهي أيضا التعلة التي يستخدمها المقاول، كلما توقفت أشغال المشروع، ويُطالب النيابة الخصوصية بتوفير منح أكثر ليستطيع مواصلة العمل".
خلق تعطل الأشغال وانسحاب المقاول امتعاضا شديدا لدى الأهالي وأصبحت الحديقة رمزا للمشاريع التنموية المعطلة بالجهة، كما ارتفعت الأصوات المنادية بفتح الحديقة للعموم بمكوناتها المتواجدة فيها، واقتلاع القصدير الذي وُضع لحماية حضيرة الأشغال، عن طريق حملة "نحي الزنك" التي انطلقت في 22 أفريل 2015 والتي شارك فيها العديد من نشطاء المجتمع المدني بالقصرين، بعد اتهامهم للنيابة الخصوصية بالفساد وإهدار المال العام دون الانتهاء من إنجاز مشروع تهيئة الحديقة.
تعليقا على هذه الحملة، صرح الرئيس السابق للنيابة الخصوصية، ماهر البوعزي خلال مداخلة له في إذاعة الشعانبي إف إم بتاريخ غرة ماي 2015 بأن "دعاة حملة "نحي الزنك" هم مجرد أطفال مرادهم التخريب وتعطيل العمل البلدي وأن البلدية شريكة في المشروع وتساهم في تمويله"، كما أضاف أنه تم إعطاء مهلة 15 يوم للمقاول لتوضيح الإشكاليات وتعهد بأن الأشغال ستعود خلال أسبوعين فقط من تاريخ تصريحه.
وكحل لاعادة إطلاق اشغال المشروع، رصدت النيابة الخصوصية مبلغا قدره 100 ألف دينار بعنوان تهيئة الحدائق العمومية وذلك عن طريق الحصول على قرض من قبل صندوق القروض ومساعدة الجماعات المحلية كان مخصصا في الأصل لتوسعة مقر البلدية. وتم طلب تحويل المشروع لتمويل تهيئة ساحة الشهداء، مثلما ذكر عبد الله القاسمي الكاتب العام لبلدية القصرين في تدخله المباشر على الإذاعة المحلية الشعانبي اف ام.
في شهر ماي 2015، نشرت البلدية إستشارة لإنجاز سور حديدي لحديقة الشهداء واقترحت لجنة الشراءات بالبلدية إسناد الإستشارة للمزود زياد الهرماسي بمبلغ قدره 67 ألف دينار اقترحه المزود، دون القيام بطلب عروض. وتجدر الإشارة هنا أن نشاط الهرماسي يقتصر على تهيئة شبكات الماء والكهرباء والغاز، حسب تصريحه للمصالح المالية بفريانة منذ أفريل 2006، مما يشكك في أهليته للمشاركة في هذه الصفقة.
وثيقة أوامر الصرف
لكن النيابة الخصوصية لبلدية القصرين قبلت مشاركته في صفقة التزود بمواد مختلفة. وهنا يجدر التذكير أنه نفس المزود الذي اشتغلت معه النيابة الخصوصية سابقا لتزويدها بمواد البناء فيما يخص أشغال التهيئة وأسندت له الصفقة وقتها بمبلغ 63 الف دينار وتتمثل في اقتناء مواد بناء ومواد نجارة ومواد كهربائية ومواد صحية لفائدة بلدية القصرين، وتبين أن جل الأسعار التي قدمها مرتفعة، مما يتنافى مع قانون الصفقات العمومية الذي يؤكد على ضرورة مقبولية ومعقولية الأسعار، فمثلا سعر الأجر كان يقدر في السوق في ذلك الوقت ب 450 مليم للقطعة، بينما ورد ثمنه في الصفقة ب 1 دينار. هذا ما جاء في مراسلة الوالي الأسبق، عاطف بوغطاس إلى الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بالقصرين، بتاريخ 3 فيفري 2015 والتي كان موضوعها "فتح تحقيق حول وجود شبهة فساد بملف ساحة الشهداء بالقصرين".
مراسلة إلى الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بالقصرين
وثيقة الشراءات
بعد إستشارة المجتمع المدني ومصالح الحماية المدنية الهيئة الجهوية لعمادة المهندسين المعماريين، المتمثلة في نائب رئيس النقابة الوطنية للمهندسين المعماريين سفيان ميساوي، بالإضافة إلى نواب مجلس الشعب بالجهة، رفض عاطف بوغطاس الإمضاء على الاستشارة المتعلقة بإنجاز سور حديدي لحديقة الشهداء والتي أقامتها البلدية في ماي 2015 واقترحت لجنة الشراءات بالبلدية إسنادها للمزود زياد الهرماسي، نظرا لعدة أسباب أولها عدم احترام أدنى شروط السلامة التي تقتضيها المصالح الأمنية ومصالح الحماية المدنية من خلال إنجاز قفص حديدي داخل مدينة القصرين، خاصة أن تلك الساحة هي مكان لخوض الاحتجاجات والمسيرات والتجمعات خلال الاحتفالات وبمجرد حدوث تدافع، قد يُشكّل ذلك خطرا على الأهالي. ثانيها، أنه وعند الحصول على استشارة سياج الحديقة، سيتواجد مقاولان إثنان: أي زياد الهرماسي ومراد الشاوش المكلف بإنجاز أشغال التهيئة، وبالتالي قد يتسبب ذلك عدة إشكاليات بينهما في صورة حصول تعطيلات أو أضرار. "وفي كل الأحوال، لا يمكن من الناحية الفنية إنجاز السور الحديدي إلا بعد التهيئة بمعنى أن مكونات السياج تحتوي على أعمدة هيكلية وبالتالي سيتطلب ذلك حفرا وإزالة لجزء من تهيئة جانب محيط الحديقة"، يوضح غطّاس.
صورة السور الحديدي لحديقة الشهداء
ينضاف إلى الأسباب السابقة للرفض، غياب المنافسة في الإستشارة، التي لم يقع إخضاعها لأحكام الفصل السادس من الأمر المتعلق بتنظيم الصفقات العمومية والذي ينص على " وجوب إجراء صفقة عمومية خاضعة لمبادئ المنافسة وحرية المشاركة في الطلب العمومي والمساواة أمام الطلب العمومي وشفافية الإجراءات ونزاهتها ومبادئ الحوكمة الرشيدة".
كذلك تبين أن المبالغ الجملية التي تم تخصيصها من ميزانية النيابة الخصوصية للمشروع والتي تحصلنا على نسخة منها من مقرر لجنة المالية ببلدية القصرين المدينة، محمد الطاهر خضراوي المدينة، قاربت 350 الف دينار. وإذا قمنا بعملية حسابية عند جمع هذا المبلغ مع المبلغ الذي رصدته PNUD للمشروع والذي ذكرناه في بداية التحقيق، فإن كلفة المشروع تجاوزت 700 ألف دينار، في حين وحسب المهندس المعماري، عاطف الرحيمي فإن الأشغال في الحديقة التي نراها اليوم لا تتجاوز ال 150 ألف دينار.
وللإشارة يحتوي هذا الجدول على مساهمة النيابة الخصوصية في إنجاز المشروع، والتي مدنا بها الوالي الأسبق، عاطف بوغطاس واستعملها في تقريره الذي أعده وراسل به وكيل محكمة الاستئناف بالقصرين في 3 فيفري 2016.
فواتير مساهمة النيابة الخصوصية في إنجاز المشروع
القضاء على الخط والقضية لاتزال مستمرة
يقول الوالي الأسبق، عاطف بوغطاس أنه تم فتح تحقيق حول تواجد شبهات فساد في ملف تهيئة حديقة ساحة الشهداء لدى الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بالقصرين بتاريخ فيفري 2016 وتم إصدار إنابة عدلية لدى فرقة الأبحاث الاقتصادية والمالية بتونس، ثم تم نقله إلى الوكيل العام مباشرة بعد شهر من فتح التحقيق لذا تعطل الملف ولم يتم النظر فيه إلى غاية جويلية 2017.
وللإشارة تحدث عاطف بوغطاس، خلال فترة إشرافه على ولاية القصرين، عديد المرات مع وزير الداخلية الأسبق، ناجم الغرسلي، بشأن مشروع التهيئة، وآخر محاولاته كانت عن طريق مراسلة لوزير الداخلية بتاريخ 26 ماي 2015 وطلب فتح تحقيق في هذا الملف.
تم إستدعاء عاطف بوغطاس من قبل الشرطة العدلية بشارع 9 أفريل بمكتب التحقيق عدد 5 بتاريخ 8 جويلية 2017 كشاهد في ملف مشروع إعادة تهيئة حديقة ساحة الشهداء.
أكد الوالي الأسبق من جهة اخرى انه التقى بعد انتهاء مهامه بالقصرين في أوت 2015 المتفقد العام للداخلية والذي فاجأه بعدم تلقيه أي ملف يخص المشروع حتى بعد أن كلف وزير الداخلية الأسبق، الناجم الغرسلي متفقدا أمنيا في 27 ماي 2015 بالقدوم للقصرين للتثبت في ملف المشروع استجابة لطلبه. وهذا يدعو إلى طرح عدة تساؤلات حول سبب جهل المتفقد العام بالملف وعدم تحصله عليه..
على الصعيد الشخصي عانى والي القصرين بسبب بحثه في هذا الملف من الهرسلة خاصة أنه كان يراسل بكثرة وزارة الداخلية وطالبها بالتدخل في ملف الحديقة، لكن إلى اليوم لم يتم البت في القضية.
وأشار عاطف بوغطاس أنه رغم إثارة الموضوع إعلاميا عن طريق حضوره في برنامج recap info على قناة الوطنية 2 بتاريخ 29 جانفي 2016 للحديث عن الملف، ولكن ذلك لم يجد نفعا. كما أنه يعتبر أن تمسكه بهذا الملف ومحاولته لكشف الحقيقة، كان من الأسباب التي أدت إلى نقله من القصرين في أوت 2015.
في اتصالنا بهيئة مكافحة الفساد فرع القصرين في شخص رئيستها، أنيسة عصيدي أكدت لنا أن ملف مشروع حديقة ساحة الشهداء بالقصرين موجود صلب الهيئة ووقع التبليغ عن وجود شبهة فساد في المشروع منذ سنة 2020 وهو "الٱن تحت الدرس"، مؤكدة على أنه يمنع على الهيئة الإدلاء بأية معلومة تخص البحث قبل إستكمال دراسته، لكنها أشارت في حديثها إلى وجود أكثر من شبهة فساد في هذا الملف.
وفي نفس السياق وحسب تصريح رئيسة هيئة الأشغال ببلدية القصرين، فاطمة الدلهومي بتاريخ 1 جوان 2021 في مداخلتها ببرنامج le mag على اذاعة السليوم اف ام، فإن أعضاء المجلس البلدي عند محاولتهم البحث في ملف حديقة الشهداء لم يجدوا أي أثر للملف، ثم علموا بعد ذلك بأنه موجود أمام القضاء وذلك ما جعلهم غير قادرين على التدخل لحله.
إثر تصريحها، اتصلنا بالناطق الرسمي للمحكمة الابتدائية بالقصرين، رياض النويوي للاستفسار عن القضية وأكّد لنا بتاريخ 1 جويلية 2021 أن القضية لازالت عند القضاء ولم يبت فيها إلى اليوم.
من جهتها، فإن جمعية يقين التي كانت شريكة في المشروع في بدايته، انسحبت منه تعبيرا منها على رفضها للغموض الذي شاب مراحل إنجازه، حيث جاء على لسان رئيسها السابق، لسعد بركاوي: "لا أدخل تحت سقف صفقات المشاريع الغير واضحة ". وللإشارة، فإن جمعية يقين لدعم التنمية الشاملة بالقصرين هي جمعية تسعى إلى دعم التنمية بالجهة على 3 أصعدة: ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، عن طريق تقديم استشارات للجمعيات والمنظمات التي تقرر إنشاء مشاريع بالجهة. وكانت الجمعية الخلدونية طلبت من جمعية يقين إختيار مساحة خضراء بالقصرين تقوم الجمعية الخلدونية بتهيئتها، فاقترح لسعد بركاوي ساحة الشهداء وحديقة مفترق المستشفى الجهوي بالقصرين، لكن وقع الإختيار على ساحة الشهداء، كما أن جمعية يقين ساعدت الجمعية الخلدونية في صياغة اتفاقية المشروع بين النيابة الخصوصية والجمعية الخلدونية، حسبما صرّح به بركاوي.
كلفة التهيئة "غير معقولة" حسب مهندسي المشروع
في آخر مراحل تحقيقنا، أردنا التثبت مع المهندس المعماري سفيان الميساوي، نائب رئيس النقابة الوطنية للمهندسين المعماريين والمهندس المعماري، عاطف الرحيمي من مدى تطابق نفقات المشروع والميزانية التي رُصدت له، مع طبيعة الأشغال التي تمت ومع المشهد الذي يراه المواطن كل يوم عند المرور أمام حديقة الشهداء، خاصة وأنهما تابعا كامل مراحل إنجاز مشروع التهيئة ويملكان المعلومات الكافية التي تمكنهما من تحديد كلفة الأشغال. قدمنا لهما بعض الوثائق التي تحصلنا عليها خلال تحقيقنا والمتمثلة في بعض الفواتير والمصاريف.
في هذا الصدد، أكد الرحيمي أن تكلفة مشروع التهيئة تجاوزت ال700 الف دينار في ظل غياب الشفافية والمنافسة والرقابة، مما يُعزّز الشكوك حول وجود شبهات فساد مالي وإداري. ووضّح أن أشغال التهيئة قُدّرت في المشروع ب 198.000 د علما وأن الشركة المقاولة لا تتحمل مسؤولية الإمكانيات البشرية والمعدات (التزمت بلدية القصرين بتوفير الإمكانيات البشرية والمعدات)، وبالتالي يُعتبر هذا المبلغ هو ثمن مواد البناء دون سواه. أصبحت بلدية القصرين مطالبة بتوفير اليد العاملة لازالة التهيئة القديمة والأشجار وأعمدة الكهرباء والحراسة وتوفير الماء والكهرباء وبناء سياج من الزنك لحماية الحضيرة … ولم يقع إحتساب كل هذه المصاريف ضمن ميزانية وتكلفة المشروع… بالتالي، فإن المبلغ المقدر للتهيئة يُعدّ غير منطقي.
موقف سلطة الإشراف وشركاء المشروع
بتاريخ 25 جوان 2015، تنقلنا إلي مركز ولاية القصرين للقاء والي الجهة الحالي، عادل المبروك وللسؤال عن سبب عدم تدخل سلطة الإشراف في ملف مشروع ساحة الشهداء رغم أهميته ورغم سعي الولاية لإنهاء بعض مشاريع الساحات الخضراء الأخرى، فأكد لنا في تصريحه أن هذا المشروع تنظر فيه هيئة مكافحة الفساد في القصرين بالتزامن مع وجود قضية في الغرض، وإذا تم إثبات شبهة الفساد، فستقوم الولاية بمحاسبة كل المتورطين فيه.
https://drive.google.com/file/d/1yVoG75ApaVRrHQ8pKTsENpraUMky0U5I/view?usp=sharing
تسجيل المقابلة
حاولنا أيضا معرفة موقف برنامج الأمم المتحدة للتنمية من ملف ساحة الشهداء بالقصرين، خاصة أنه وقع تمويل الجمعية المشرفة عليه من طرفه، فتحصلنا في 13 جويلية 2021 على منسق المشاريع بالمنظمة، زياد بوليفي والذي كان من بين الأعضاء الموجودين خلال فترة إنجاز مشروع ساحة الشهداء إلى حدود 2017، فأكد لنا أن كامل الفريق المشرف على المشروع في تلك الفترة غادر أراضي الوطن ويصعب التواصل معه. فتوجهنا للحديث مع يوسف الأندلسي، المسؤول على الجانب المالي وتمويل المشاريع في المنظمة الذي وضح لنا أنه شغل هذه الخطة منذ سنوات قليلة وليس له دراية بحيثيات المشروع. وبعد مده بالملف المالي والفني للمشروع للإطلاع عليه، أعاد الإتصال بنا وأعلمنا أنه حاول البحث قليلا عن تفاصيل إنجازه، فعلم أن برنامج الأمم المتحدة للتنمية واجه بعض الصعوبات في طريقة التعامل مع هذا المشروع، لكنه أتمّ صرف المبلغ المتفق عليه.
اتصلنا كذلك بالرئيس السابق للجمعية الخلدونية، سليم بن حسن لمعرفة رأيه بخصوص التجاوزات فيما يخص مشروع تهيئة حديقة ساحة الشهداء بالقصرين، فأفادنا أن علاقته بالمشروع والأشغال كانت فقط "على المستوى القانوني وكيفية إيجاد التمويل لانجاز مشروع تمناه كل اهالي القصرين وأراد ترك بصمة الجمعية الخلدونية فيه"، مؤكدا أن النيابة الخصوصية عندما عرض عليها اهتمام جمعيته بالمشاريع المتعلقة بالمساحات الخضراء والتراث، اقترحت عليه العمل على ساحة الشهداء بالقصرين. وووعدت النيابة شفويا بتوفير كل الإعتمادات لتمويل المشروع، لكنها تراجعت عن ذلك، مما أجبره على البحث عن التمويل من برنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNUD). وفيما يخص علاقته بـمقاول المشروع وشركة MPS أكد أن النيابة الخصوصية هي التي إختارت المقاول والمزود لانجاز أشغال تهيئة الحديقة وأن دوره كان فقط صرف المنح لإتمام الأشغال.
في ختام حديثه، أكد سليم بن حسن أنه استسلم ولم ير حلا لهذا المشروع، خاصة أن تكلفته فاقت المبلغ الذي تم رصده له بكثير، فقرر الانسحاب منه. وأضاف أن خطأه كان في التقصير على مستوى مراقبة الأشغال ونسق سيرها.
سعينا للتواصل مع رئيس النيابة الخصوصية السابق، رضا العباسي لكننا لم نتمكن من ذلك نظرا لرفضه الحديث والتصريح حول الموضوع وحتى محاولاتنا التأثير عليه عن طريق عائلته للاجابة على بعض الأسئلة ومواجهته بما تحصلنا عليه، قوبلت بالرفض بتعلة أن القضية موجودة اليوم لدى القضاء وأي تصريح لن يخدمها.
الحديقة اليوم( 2021)
في الأثناء، تبقى الحديقة على حالها ورغم بنيتها المهترئة وافتقارها لأي مظهر من مظاهر الجمال، فإن الأهالي يواصلون ارتيادها والجلوس فيها، مرددين هذه العبارات: "حسبي الله فيهم"، "كان خلوها كيما كانت خير"، حرمونا حتى من مجرد نصب تذكاري فيه أسماء الشهداء وسورة الفاتحة"، كما جاء على لسان أحد المتساكنين في المدينة.