رحلة فك العزلة عن مناطق تلتقي فيها الجنة والجحيم

يسرى الشيخاوي

في الطريق من طبرقة إلى عين دراهم تتناثر قطع من الجنة على الجنبات وتغزو الخضرة الأثير ويتوشح  الأفق بمسحة من الشاعرية ويجمح الخيال على إيقاع المنعرجات التي تحاكي نسق الحياة.

سمفونية من الألوان والأحاسيس التي تتولد عن مراقبة سير الحافلة واقتفاء أثر الجَمال يمينا وشمالا، والأعين تعانق السماء الصافية لترتطم بوجه الماء الذي يستدر أحاديث وأحاديثا ويخلق مفارقة تلو المفارقة في مشهدية سريالية ستفصح عن تفاصيلها في دوار النشم.

جمالية ساحرة تتبدى في الطريق إلى هذا الدوار التابع لبلدية الخمايرية من معتمدية عين دراهم التابعة لولاية جندوبة، جمالية تحاوط البؤس الذي يظهر في بعض الصور التي تعجز الكلمات عن وصفها وفي ابتسامات الأمل التي تخال أنها دموع ضلت طريقها إلى المآقي.

الأشجار الخضراء التي تكاد تعانق السماء متناثرة على امتداد الدوار وكأنها تؤنس غربة أهله داخل وطنهم الذي ضنا عليهم  بسبيل تصلهم ببقية المناطق المحيطة بهم، وهي أيضا علامة صمود في وجه العطش الذي يواجهونه والمياه من حولهم.

جولة خاطفة في المكان كفيلة بأن تفضح حجم الفقر والتهميش والوجع الذي عشش في أرواح السكان قبل أن يرتسم على وجوههم، هنا المنازل متداعية متهالكة كوعود دولة عاطلة، هنا الأسقف تحتمي ببقايا الأشجار، هنا في أعين الكلاب يسكن وجع البشر.

بين الوجع والوجع يقفز سؤال واحد بكل إلحاح " ماذا لو لم تُنر منظمة العمل الدولية بعضا من عتمة هذا الدوار في إطار مشروع فك العزلة عنه؟"، وفيما تتهاطل السيناريوهات التي تصب كلها في خانة البؤس تتعالى الزغاريد معلنة ميلادا جديدا.

في الضفة الأخرى، يتجلى أكثر من وجه لكرم الأهالي، فرحهم وزغاريدهم وابتسامتهم التي حاولوا ما استطاعوا إليه سبيلا أن يجردوها من الألم، الخبز والحليب والبيض الذين صار لهم طعم آخر، هو طعم المحبة التي أظهروها لزائريهم.

وفيما أشجار "النشماية" التي استمد منها الدوار تسميته، وأيضا صموده في وجه الفقر، يلوح الطريق الذي هيأته منظمة العمل الدولية بالتداخل مع عدة أطراف أخرى على غرار عمادة الخمايرية والهيئة العامة للاستشراف ومرافقة مسار اللامركزية والاتحاد الأوروبي وتلوح معه خيوط الأمل التي تشبث بها الأهالي لعلهم يظفرون بالماء الصالح للشراب.

في هذه الرقعة من الأرض المليئة بالمحبة والمقاومة يعيش حوالي مائة وتسعين مواطنا تونسيا غفلت عنهم الدولة طويلا، أربعون بالمائة منهم نساء يجدن نسج الفرح من خيوط الحزن، وهم يمارسون تربية الخرفان والأبقار والدواجن كما يستغلون الفلين والبلوط والصنوبر والنباتات العطرية.

والدوار الذي يمتد على مساحة غابية وأخرى فلاحية بإمكانه أن يكون نموذجا للمشاريع الاقتصادية في المناطق النائية التي تختبئ معاناتها وراء جمال الطبيعة، ويكفي أن تتحدث إلى بعضهم حتى تكتشف مدى إصرارهم وقدرتهم على تخطي كل الصعاب ليشعروا بأنهم مواطنون، مواطنون فقط دون ردفهم بوصف من الدرجة الثانية الذي يشرعه واقعهم المعيش.

قبل التدخل كان هذا المكان نقطة لقاء بين الجنة والجحيم، الجنة الحاضرة بالمناظر الآسرة والخضرة الفاتنة والجحيم بانعدام السبل إلى الأماكن المتاخمة للدوار لان الطريق غير مهيئة ولا تقربها السيارات كما أنها تستهوي الخنازير، قد يموت المريض ألف مرة وهو ينتظر الخلاص ولا يأتي، وقد يصرخ الوليد صرخته الأولى وأمه تنتظر أن تبلغ المستشفى ويتمنى أب أن يحضر "دلاعة" لأولاده وتخونه الطريق.

في نظرات "سناء" والخالة "صالحة" و الخال "الطاهر" والخال "صالح" وهم يتحدثون عن الطريق وعن الأمل الذي حمله مشروع منظمة العمل الدولية إليهم يسكن الفرح الذي لن يكتمل إلا بتمكينهم من الماء الصالح للشراب.

وفي انتظار أن يكتمل الحلم، استبشروا بالطريق التي ستجعل مهمة جلب الماء أقل وطأة، وحفظت الأشجار التي تعاضدهم صدى كلماتهم وصدى عبرات الخال "صالح" حينما شرق بدمعه و نبرة صوت الخال "طاهر" وهو يسند ظهره إلى شجرة ويتحدث عن دور الطريق في فك عزلتهم.

الخالة "صالحة" فرحت أيضا بهذا المنجز وصدحت حنجرتها بزغاريد تردد صداها بين أوراق الأشجار، أما "سناء" التي خلصها الطريق من سيل من المعاناة فتمنت أن تفك عزلة مناطق أخرى لتبرهن أن الكرم  والإيثار متأصلين في هذه المناطق التي تفترش الأرض وتلتحف السماء.

وعلى إيقاع الفرح المتماهي مع أمل في أن يغدو حلم مد المنطقة بالماء الصالح للشراب حقيقة، كانت الانطلاقة إلى وجهة أخرى في رحلة فك العزلة عن المناطق التي تلتقي فيها الجنة والجحيم، إلى دوار القرافة حيث تدخلت منظمة العمل الدولية لمد جسر يفك عزلة الدوار إذ تهاطلت الأمطار بغزارة.

فبل المغادرة أبت الأقدار إلا أن تضع زائري المكان الجدد في مواجهة مشهد سريالي يكشف حجم معاناة الأهالي، إذ أطل رجل يغالب قيظ اليوم ويسبقه حمار محمل بأواني المياه، يمضي الحمار إلى طريق ألفه منذ سنين ويتحدث الرجل عن المعاناة ولكنه لا يخفي فرحه بالطريق التي خففت جزءا من المعاناة.

في الطريق إلى دوار القرافة التابعة لبلدية حمام بورقيبة حيث تصبح الأمطار رديفا للمعاناة وتحول دون بلوغ التلاميذ المدرسة إذ يرزحون تحت عبء حالة من العزلة بسبب سيول المياه التي تتراكم بفعل الأمطار التي تنطلق من شهر نوفمبر إلى حدود شهر مارس.

ولفك حالة العزلة والالتحاق بالمدرسة ليس من حل أمام التلاميذ إلا أن يسلكوا طريقا أخرى بعيدة وهو ما يثقل كاهلهم أكثر  ويجعلهم عرضة للتعب والإرهاق، وهي وضعية تتجلى فيها المفارقة بين وجهي المكان الجميل منه والمفزع.

الوجه الجميل نفسه، الخضرة الفاتنة التي تغازل خيوط الشمس في مواجهة وجه مفزع هو الذي يجعلك تتفكر في مصير أطفال لم تلتفت لهم دولتهم ولم تشفع لهم أوراق انتمائهم إليها وحتمت عليهم مواجهة المطر أو التعب.

ولكن اليوم صار لهم جسر  يخطون عليه بأقدامهم حكاياتهم وأحلامهم وهواجسهم، جسر أعطى لدوار القرافة وجها آخر وفك عزلته وأخرج المطر من دائرة الخطر الداهم ونذير الانقطاع عن الدراسة أو السير لأمتار طويلة ترهق الأقدام.

هنا في الدوار الذي بُعثت فيه حياة جديدة، ترتسم ملامح الفرح على وجوه الأطفال والأمهات اللاتي استقبلن الزائرين بحفاوة وحب وأغدقن في عبارات الثناء على القائمين على المشروع وخاصة منظمة العمل الدولية التي نفضت غبار النسيان عن أماكن تختفي وراء جمال الطبيعة وكرم الأرض وساعدها في ذلك أشخاص يؤمنون بحق الجميع في حياة كريمة.

وتدخل منظمة العمل الدولية في هذه المناطق يقوم بالأساس على توفير السبل الضرورية لتحقيق العمل اللائق لمتساكني هذه المناطق الذين يعانون قسوة المناخ ونسيان الدولة وتمظهرات الفقر ولكنهم تسلحوا بالإرادة ليحييوا رغم كل الصعوبات.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.