قراءة في أحد الأعمال المتميزة للفنان التشكيلي رفيق بوسنينة

بقلم حياة العروسي-
 
تقدم حياة العروسي الباحثة في نظريات الابداع بالمعهد العالي للفنون والحرف بقابس والمتحصّلة على الاستاذية في الفنون الجميلة من المعهد الاعلى للفنون الجميلة بتونس قراءة فنية وتقنية في أحد أعمال الفنان التشكيلي المتميز رفيق بوسنينة. وتتعلق هذه الدراسة بلوحة فنّية بعنوان: « Etude Cri-cufiée 4 »  (زيت على قماش 145/145).
 
يجسّد العنوان والصورة في هذه اللوحة صورة البابا وهي استعارة للوحة فيلاسكيز(le pape Innocent X). وتستدعي هذه الاستعارة في الذهن لوحة فرانسيس بيكن الذي استعار ذات اللوحة ليمارس عليها فكرته في رسم الصورة الحقيقية او بالأحرى حقيقة الصورة، فالمعروف حسب بعض الروايات التاريخية أن البابا لم يكن أبدا بريئا بل كان دمويا يداه ملطختان بالدماء وفرانسيس بيكن صوّره مشَوَّهًا يصرخ معَذَّبًا.
 
اما الفنان رفيق بوسنينة فقد استعار صورة البابا ووضعها في أعلى اللوحة وكأنه يستعيره للدلالة على السلطة بأنواعها.. سلطة الحكم في وضعية الجلوس على العرش وسلطة الدين باستعارة أعلى رمز في الديانة المسيحية وكأنه يستعمله رمزا انسانيا جامعا لكل الديانات وهو المشرف على ما يحدث في بقية عناصر اللوحة.
 
العين تلتقط الصورة المستعارة للبابا في أول التقائها باللوحة لأن الأحمر لون حار وهو في تباين صارخ مع بقية عناصر اللوحة، ثم تنتقل العين يسارا لتلتقي أولى الشخصيات لأن هناك تباين الداكن والفاتح أقوى منه من الجهة اليمنى. ثم تذهب العين متتبعة الخطوط التي ترسمها الأجساد الأنثوية المصلوبة إلى أن تصل إلى الشخصية الأنثوية التي تتوسط الأجساد وتستلقي مقابلة في تناظر مع صورة البابا وتكوّن معه خطّا يفصل يمين اللوحة عن يسارها. 
 
ونلاحظ فيما بعد ثلاث شخصيات أنثوية على يسار البابا تكوّن خطّا عموديا يعيدنا لوجه البابا ثم نرى فيما بعد المستوى الثاني أو الخلفية لننتبه لوجود شخصيات أخرى واحدة على يمين المشاهد ضخمة وممتدة على طول اللوحة وتعابير وجهها بارزة وأخرى وراء الذراع اليسرى للبابا بينه وبين الجسد الأنثوي المصلوب لكنه يدير ظهره ويذكرنا بحنظلة ناجي العلي.
 
نلاحظ خطّا أفقيا ترسمه ذراعا المرأة الثانية في الترتيب على يسار البابا تفصل اللوحة إلى جزئين أحدهما يتمركز فيه البابا والآخر تتمركز فيه المرأة المقابلة للبابا وتزيد الألوان فصلا. ففي الأعلى يسيطر الأحمر وفي الأسفل يسيطر الأزرق مع الخطوط الحادة في تباين مع الخطوط المنحنية.
 
القراءة أولى:
لوحة البابا لفيلاسكيز تضعنا في تصورات دينية مسيحية وتذكرنا أن الفنان كان خادما للكنيسة والسلطة وأيضا تجعلنا نرى الأعمدة صلبانا ونرى النساء مصلوبات رغم أن الصورة النمطية هي صورة المسيح المصلوب لكن أيضا نرى مفهوم التضحية ففي الفكر المسيحي عيسى حمل خطايا كل الناس وضحى بنفسه لأجلهم.
 
إذا نجد المرأة المضحّية بنفسها لكنها ليست امرأة واحدة بل 6 نساء ونجد فيهنّ تنوعا بين الشابة والمسنّة والسمينة والهزيلة والأم والحامل.. إذا مختلف فئات من النسوة يجمعهن الألم وتتجمعن حول المرأة المعاكسة أو المتناظرة مع البابا والمستلقية كجثة تخترق جسدها شظايا وتحمل تعبير الألم على وجهها.
 
فتمثيل النسوة لم يكن فيه إثارة وإغراء وكأنّ الفنان يرسم معاناة المرأة. أما الشخصية اليمنى للمشاهد فهي كمسخ متفرج على المعاناة يحتمي بالبابا ويسخر من آلام تلك النسوة.
 
في حين أن الشخصية التي تدير لنا ظهرها، فهي بحجم أصغر وفي مكان أقلّ أهميّة وكأنّه لا يحتمل مشاهد الألم فيتجاهل المشهد أو ربما هو كحنظلة يحتج على الوضع.
 
المعنى والدلالة:
يمكننا أن نقول أنّ اللوحة تحمل مفاهيم معاصرة فنجد استعارة من فيلاسكيز وتذكرنا هذه اللوحة باللوحة الرمز وهي آنسات آفينيون لبيكاسو وكذلك نشعر بوجود سلفادور دالي. 
 
لكن ما يضعها في جوهر المعاصرة ليس الاهتمام بالبنية والتشكيل والعلاقات بين العناصر كما تحدث عن ذلك سيزان لكن هناك موقف أورأي يعلنه الفنان بوضوح فهو ينقد وضع المرأة في المجتمع التونسي هذا المجتمع الذي يتشدق بمجلة الأحوال الشخصية ويعتبر المرأة قوية بالقوانين ولها الحرية التي لا تجده المرأة العربية.
 
لكن الواقع يصف معاناة المرأة بكل أصنافها :العاملة وربة البيت والأم والشابة ويرسم الألم متمثلا بآلام المسيح ويعترف بتضحيتها وينقد المجتمع الهازئ من هذه الآلام مصورا إياه مسخا بشعا ومعترفا في ذات الوقت أن هناك من يعارض لكنه ضعيف ورأيه غير مسموع.
 
هي لوحة نقدية بامتياز تجعلها مصنّفة ضمن المعاصرة وتعتمد رموزا تجعلها إنسانية كونية يحتفي فيها الفنان رفيق بوسنينة بالمادة اللونية وكأنها تحضر بماديتها مؤكدة تعبيرية الألم وليست راسمة لصورة مؤلمة.
 
في هذه اللوحة يستدعى الفنان فيلاسكيزو أيضا يحضر فرانسيس بيكن الذي استعار بدوره ذات اللوحة وكأننا هنا نشعر بأن الفنان رفيق بوسنينة قد استعار الاستعارة لأننا نرى الألم والتشويه وهو من مميزات أعمال فرانسيس بيكن.
 
 
الألوان: الخلفية بالأسود
البابا وعرشه فيه تباين كمي ويسيطر اللون الأحمر 
النساء لون فاتح ترابي بلون البشرة
 
تحت البابا كتلة من الأشكال الهندسية والخطوط الحادة يغلب عليها الأزرق بدرجات.
 
في الخلفية شخصية كبيرة برمادي ملون بالبني بدرجة إضاءة تقترب من الأسود والشخصيّة الأصغر فيها الفاتح والداكن. نجد استعمالا لجملة من التباينات منها التباين النوعي والتباين الكمي والحار والبارد والداكن والفاتح.
 
الخطوط: تغلب المنحنيات مع حضور للخطوط المستقيمة متمثلة في العرش وفي الصلبان وفي الكتلة تحت البابا والتي تحيط بالمرأة المقلوبة وكأنها انعكاس للبابا مخترقة جسدها مثلثات تبدو كالشظايا.
 
*عرضت هذه اللوحة بالمعرض الجماعي لأساتذة المعهد العالي للفنون والحرف بقابس في 24 فيفري 2022 لأول مرة، ثم في معرض فردي للفنان في قاعة العرض بالمعهد العالي للفنون والحرف بقابس من 3 إلى 9 مارس 2022.
 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.