يسرى الشيخاوي-
إمرأة بلغت من الكبر عتيا، امتصت وجع الفراق على جرعات وسكنت إلى ألم البعد، سكبت العبرات حتى جفت مآقيها واستجارت بالوهم لتطرد حقيقة عنوانها الموت، واتخذت الانتظار أنيسا وسندا حينما اتفق الجميع على رأي واحد.
هي "زينة" التي عزفت عن كل زينة وهي تنتظر عودة ابنها الذي ولى وجهه شطر الضفة الأخرى بحثا عن عن الجنة الموجودة هناك في إيطاليا حيث خط صفحة جديدة في حياة أم لن تقتنع بأن قطعة من كبدها غادرت هذا العالم.
هذه الشخصية التي تؤديها الممثلة منى نور الدين في مسلسل " حرقة" في جزئه الثاني، تصور بعضا من لوعة أمهات التونسيين المفقودين في إيطاليا، أمهات لن يقتنعن بأن أبناءهن قد رحلوا إلى عالم آخر دون أن تعانق أعينهن جثثهم أو تطالع رفاتهم.
منذ ما يزيد عن عقد من الزمن وأمهات تصرخن مطالبات بمعرفة مصير ابنائهن وسط غياب أرقام وإحصاءات دقيقة عن عدد التونسيين المفقودين في إيطاليا جراء الهجرة غير النظامية، لكن ارقاما غير رسمية تقدر العدد بأكثر من خمسة آلاف.
خمسة آلاف تونسي ألقت الأمواج في غياهب المجهول، يعني خمسة آلاف أم تذرف الدمع إلى أن يجف وقلبها يناجي الرب أن يعود إليها ابنها سالما ولا يستجيب القدر لدعائها ولا تيأس تماما ك"زينة" في مسلسل "حرقة"، هي تأبى أن تصدق أن ابنها مات، هي مؤمنة بأنه حي وأن قاهرا حال دون أن يتصل بها..
وجع صاخب يرتسم في مآقيها، انكسار خجول يتبدى في خطواتها المثقلة، ووجع يوشح صوتها المتعب من فرط الدعاء، وأثر السنين والحزن يتجلى في التجاعيد على وجهها وفي خيوط الشيب في رأسها، هذا ما تمرره لنا الممثلة منى نور الدين إذ أدت دور أم نخر فراق ابنها كبدها.
الكل من حولها استسلم لفكرة أن ابنها أسلم روحه الى الله، لكنها ظلت تغرد خارج سربهم تواعده كل ليلة على أمل أن تلقاه وتكسر وحدتها ببعض الذكريات وهي تستغرب استسلام زميلاتها في المحنة لفكرة موت أبنائهم.
عشرون سنة بالتمام والكمال مرت منذ أن ركب ابنها قوارب المجهول، لم تتلق منه اتصالا ولم تسمع صوته ولكنها لم تر جثته أيضا، الأمر الذي يجعلها على يقين بأنه حي وسيعود يوما حتى أنها تركت له وصية مع جارتها.
هي لم تيأس بل إنها لا تستوعب كيف تسلل اليأس آلى الأمهات من حولها، فهي كل ما مرت سنة تتشبه أكثر بأملها في عودة ابنها وكأنها تخشى أن يتسرب إليها القنوت إن تخلت عن المحاولة وهي لا تنفك عن السؤال عن ابنها ولم تتوقف عن البحث عن عنه عبر أولاد الحي الذين غادروا إلى إيطاليا.
وإن أخبرها أحد المهاجرين إلى إيطاليا إنه لو كان حيا لسمعوا عن أخباره والأرجح أنه مات، لامته وقرعته وكذبت أقواله وأصغت إلى قلبها الذي كلما نبض أخبرها أن ابنها حيا، اي وجع هذا الذي تحمله بين ضلوعها، اي وجع هذا الذي يجعلها تنكر كل حقيقة للحضن الوهم.
شخصية "زينة" في المسلسل ليست إلا صورة لأمهات تونسيات عايشن نفس الوجع وتعودن عليه وسكن إلى الوهم ليتخلصن من شبح فكرة قاتلة هي فكرة موت أبنائهن، هن لن يقتنعن بذلك لأنهم لن يلقين نظرة الوداع على جثثهم، هن على يقين أن الدولة لن تبذل جهدا في استجلاب الجثث ولا الرفاة لذلك يظل الأمل في عودة أبنائهن كذبتهن الصادقة.