“أشعر بأنني من كوكب آخر”.. عبارة سعيد التي تختزل كلمته أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان

 يسرى الشيخاوي-

"أشعر بأنني من كوكب آخر" عبارة لرئيس الجمهورية قيس سعيد وردت في كلمته بمناسبة حلول سنة 2021، وذلك في سياق حديثه عن وضع البلاد لتثير حينها جدلا واسعا بين الساسة والعامة.

هذه العبارة تتبادر إلى الذهن حين الاستماع إلى كلمة رئيس الجمهورية في الجزء رفيع المستوى للدورة التاسعة والاربعين لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بجينيف، بل إنها تختزل كل خطابه.

ففي الوقت الذي يعيش فيه العالم حالة من التوتر والاضطراب، وتنحبس فيه أنفاس الانسانية على إيقاع تدخل روسي عسكري في أوكرانيا موشح بتأهب نووي يبعث على الخوف، لم يتحرر رئيس الجمهورية من متلازمة التدابير الاستثنائية التي استأثرت بكل خطابه.

في الواقع، عند الاستماع إلى مستهل كلمته يلوح بصيص من الأمل في أنه سيدلو بدلوه فيما يحصل من حولنا في العالم إذ يقول "نمر في هذه السنوات في هذا القرن الجديد بأوضاع بالغة التعقيد وتحديات غير مسبوقة لم تعرفها الانسانية من قبل خاصة هذه الجائحة التي لم تستثن أي إنسان في العالم".

لكن يبدو أن رئيس الجمهورية التونسي قد اختصر التوتر الذي يشهده العالم في جائحة كورونا وتناسى بقية التحديات التي يواجهها، ليواصل الحديث قائلا "

ومثل هذه التحديات وهذه الظروف وهذه المستجدات تظافرت جهود المجموعات الدولية على المستوى العالمي وعلى المستوى الإقليمي وعلى المستويات الوطنية ولم يكن الحل ممكنا لتجاوز هذه الجائحة إلا بتظافر جهود الجميع لأن الحل لا يمكن أن يكون إلا على المستوى العالمي.."

"ونحن في ظل هذه الأوضاع وفي ظل تزايد الصراعات وفي ظل تفشي الفقر والبؤس خاصة في الدول التي تعرف بأنها نامية لكنها للأسف لم تحقق النمو الاقتصادي والاجتماعي المطلوب"، مع هذه الكلمات يعود الامل في أنه سيتحدث عما يدور في العالم من صراع، ليقفز قفزة حرة إلى الوضع في تونس ليمر من الحديث عن النمو الاقتصادي إلى حقوق الإنسان.

"نعمل وقد عملنا وسنحقق ذلك ان شاء الله في تونس ونعمل على تحقيق ذلك في إطار المنظمات ذات البعد العالمي وفي المنظمات الإقليمية وفي المستوى الوطني على تحقيق حقوق الإنسان كل حقوق الإنسان من الجيل الأول إلى الجيل الثالث والجيل الرابع عند البعض مرورا بالجيل الثاني لأن التحديات كثيرة ولا يمكن أن نواجهها ولا يمكن أن نحقق هذه الأجيال المتعاقبة لحقوق الإنسان إلا إذا كنا مجتمعين على المبادئ ومجمعين على القيم التي يتقاسمها العالم جميعا"، في هذه يغيب التسلسل المنطقي في المرور النمو الاقتصادي وحقوق الإنسان ويبدو الحديث عن أجيالها مفرغا من أي معنى.

بعد هذه الوصلة المطرزة بالحشو اللغوي، يمارس رئيس الجمهورية رياضة القفص بالزانة ويحشر المستمعين إليه في زاوية التدابير الاستثنائية التي اتخذها ذات 25 جويلية، بل إنه أعرض عن كل الاسباب الحقيقية وراء اتخاذ هذه التدابير وأوعزها إلى الجانب الحقوقي فحسب.

"تم اتخاذ جملة من التدابير الاستثنائية في تونس يوم 25 جويلية الماضي انطلاقا من قناعتنا الراسخة بأن المقصد من وضع الدستور ومن وضع سائر التشريعات هو تحقيق حقوق الإنسان في الفعل وفي الوقت وليس في مجرد النصوص"، بهذه الكلمات أرجع رئيس الجمهورية الإجراءات الاستثنائية إلى تحقيق حقوق الإنسان، والحال أن المتابع للشأن السياسي يعي جيدا أن الأمر يتعلق بصراع سياسي وبحرب تموقع لا ناقة للحقوق فيها ولا جمل.

وكعادته لم يفوت رئيس الجمهورية الفرصة للعودة بالذاكرة إلى الوراء عبر الحديث عن ريادة تونس في مجال حقوق الإنسان إذ قال " ولدينا تجربة طويلة في تونس في هذا المجال ولعل من باب التسيد ان أذكر أن تونس عرفت أول دستور وأول إعلان للحقوق في منتصف القرن 19 كان هناك إعلان لحقوق الراعي والرعية والحاكم والمحكوم في جانفي 1860ولنا تجربة دستورية طويلة وعميقة استبطنها التونسيون".

وإن كانت تونس فعلا رائدة في هذا المجال وفي العود إلى الماضي فخر واعتزاز بهذا البلد الذي ما انفك يبهر العالم، فإنه لا بأس في الحديث عن انتكاسات هذا المجال في الحاضر وخاصة بعد التدابير الاستثنائية التي تمضي بنسق لا يأخذ بعين الاعتبار الحقوق والحريات بل إنه يهددها بأكثر من تجل وبأقنعة مختلفة.

" لكن للاسف تم اتخاذ هذه التدابير وفق الدستور ذاته للحفاظ على الحقوق والحريات على الجيل الاول المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية وعلى الجيل الثاني المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كان الحرص على تحقيق هذه الحقوق حرصا نابعا من قناعتنا الثابتة والراسخة لأن تكون هذه الحقوق موجودة في أرض الواقع وليست مجرد نصوص يمكن أن نتباهى بها في الداخل وفي المحافل الدولية"، يعود رئيس الجمهورية إلى الحاضر لكن وفق التقويم الاستثنائي الذي انطلق منذ الخامس والعشرين من جويلية الماضية.

ولم يفوت سعيد الفرصة ليسدد ضربات في مرمى المعارضين للإجراءات الاستثنائية  عبر تصنيف اعتبار التدابير الاستثنائية وسيلة لنكران الحقوق ضربا من ضروب الخيال والتضليل والتشويه إذ يقول "للاسف البعض لم يتعظ بالتاريخ وام يقرأ التاريخ جيدا محن دخلنا اليوم مع هذه الاجيال المتعاقبة لحقوق الإنسان دخلناها جميعا ولن تتردد في مزيد دعمها وما يشاع عند البعض من ان هذه التدابير الاستثنائية هي وسيلة لنكران بعض الحقوق، ما يشاع خطأ وتضليل ومحاولة القيام بحملات تشويهية لا علاقة لها بالواقع".

عن حرية الصحافة وعن حرية التنقل وعن استقلال القضاء في تونس تحدث أيضا وكأنه يبرر الإجراءات الاستثنائية ويبعث برسائل للدوائر الأجنبية إذ يقول "حرية الصحافة مضمونة حرية التنقل مضمونة الحريات كلها مضمونة بنص الدستور وبالصكوك الدولية التي صادقت عليها تونس ولم تتحفظ على اي بند من بنودها بل بالعكس نحن في تونس نسعى إلى تحقيق دولة القانون بل أكثر من دولة القانون مجتمع القانون حيث يشعر كل مواطن أنه مواطن بالفعل وليس مجرد ظرف يوضع في صندوق الاقتراع يوم الاقتراع.. لا بد ايضا ان يكون هناك قضاء عادل مستقل وهو ما نعمل على تحقيقه لانه لا فائدة في النصوص إذا كانت قصور العدالة قصور يدخلها السياسيون تحت عباءة القضاة".

ولم يخل خطاب سعيد في هذا المستوى من المزايدة واستعراض العضلات في مجال الحريات، في الوقت الذي يختلف فيه إثنان حول انتهاك الحريات في فترة الاجراءات الاستثنائية والتي اتخذت أكثر من تجل اتخذ من تصحيح المسار والقضاء على الفساد غلافا لن يقوى على استيعاب المزيد منها في قادم الأيام.

"نحن نعمل من أجل الحرية من أجل الكرامة من أجل الإنسان في أي منطقة من مناطق العالم على  قدم المساواة"، بهذه العبارات ختم قيس سعيد كلمته ليصبح نفسه وصيا على الإنسانية جمعان في تونس وخارجها ويثبت صحة عبارته التي قالها ذات عام جديد " أشعر أنني من كوكب آخر" ..

رئيس الجمهورية يبدو فعلا من خلال كلمته وكأنه في كوكب آخر يدور فيه كل شيء حوله، كوكب لا حديث فيه إلا عن التدابير الاستثنائية، ولا وجهات نظر فيه إلا وجهة نظره التي تحمل المتمعن فيها إلى متاهة من
تفكير تنقطع فيها سبل المنطق.. 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.