مشروع حماية رأس الجبل من الفيضانات: أمطار تعري “عيوبا” في الانجاز

  واد القنطرة بعد انجاز مشروع حماية رأس الجبل من الفيضانات

بقلم رُواء حجّي-

"حادثة الفيضانات جعلت النوم يجافي أعيننا… المياه تسربت إلى منازلنا ودكاكيننا وكبدتنا خسارة مادية جراء تلف معظم السلع والمنتوجات الغذائية"، بهذه العبارات تسترجع صليحة الدخلي أحداث 24 أكتوبر 2021، حين استفاقت في حدود الساعة الثالثة صباحا على وقع أصوات أمطار غزيرة لتجد مياها طينية تحاصر منزلها.

فيضانات عارمة اجتاحت مدينة رأس الجبل، يرجع أهالي المنطقة أسبابها إلى التغييرات المحدثة على الأودية في إطار مشروع حماية رأس الجبل من الفيضانات، في حين تعتبر السلطات المحلية ووزارة التجهيز والإسكان ارتفاع منسوب الأمطار السبب الرئيس لما حدث.

في ذات الحي، داهمت السيول متجر سعاد بن نجمة لبيع الثياب المستعملة. تقول محدثتنا: "ألحقت المياه أضرارا بمنازلنا ومتاجرنا. ووجدنا صعوبة في تنظيف حينا من الأتربة الطينية. ظرف صعب عايشناه نحن وأطفالنا جراء هذه الفيضانات المباغتة". تصر سعاد على أن رأس الجبل لم تشهد سابقا فيضانات بهذه الحدّة سوى مرة واحدة منذ ثلاثين سنة تقريبا وكانت خالية من الأتربة والحصاة.

"شهدت المنطقة أمطارا استثنائية، أشدد على كلمة استثنائية. لا يمكن للمنشآت المائية المنجزة في هذا الشأن استيعاب مثل هذه الكميات من التهاطلات الهامة". يوضح المدير العام لإدارة المياه العمرانية بوزارة التجهيز والإسكان نجيب بن شيخة.

حسب المعهد الوطني للرصد الجوي بلغت كميات الأمطار بمعتمدية رأس الجبل بين 23 و24 من أكتوبر الماضي 166 مليمترا. 

يعتبر أنور الغضبان، أستاذ التاريخ والجغرافيا والناشط المدني، أن مشروع حماية منطقة ما من الفيضانات لا يمكن أن يتم تعليل عدم نجاعته بمنسوب مياه الامطارالاستثنائي. قائلا: "في أواسط ديسمبر 2021 تهاطلت أمطار في رأس الجبل بكميات أقل من الكميات السّابقة فغمرت المياه المدينة. قديما شهدت المنطقة أمطارا بلغت 100 مليمترا ولم تحدث فيضانات بهذا الشكل". موضحا أن "عملية انسياب المياه كانت طبيعية." 

تحذيرات يضرب بها عرض الحائط

حذّر رئيس المكتب المحلي لنقابة الفلاحين برأس الجبل، محي الدين بن حسين من المشاكل التي يمكن أن تنجرّ عن إنجاز مشروع حماية مدينة رأس الجبل من الفيضانات سواء في وسط المدينة أو في المحيط الفلاحي، لكنه لم يجد تفاعلا من قبل البلدية حسب قوله.

من المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن معتمدية رأس الجبل تتميز بمساحاتها الخضراء حيث يقوم قسط كبير من اقتصادها على النشاط الفلاحي والزراعي.

يقول بن حسين إن مخاوفه باتت تنعكس على أرض الواقع، موضحا: "لم يسبق للأراضي أن تضررت بهذا الشكل: أشجار اقتلعت، أراض غمرت بمياه الفيضانات الموحلة، حيوانات جرفتها السيول، إضافة إلى انجراف التربة والمسالك المحاذية".

أضرار لا تحصى ألحقتها الفيضانات بالقطاع الفلاحي في رأس الجبل، الأمر الذي أثار حفيظة الفلاحين.

نفذ الفلاحون بتاريخ 29 أكتوبر 2021 وقفة احتجاجية أمام المعتمدية للمطالبة "بإصلاح المسالك الفلاحية المقطوعة وحماية الأراضي المحاذية للأودية"، معتبرين رأس الجبل "منطقة منكوبة"، وفق بيان نشرته الصفحة الرسمية للنقابة الجهوية للفلاحين ببنزرت. 

فيديو: تصريح لمكتب النقابة برأس الجبل.

منذ أن تم تداول الحديث عن مقترح مشروع حماية رأس الجبل من الفيضانات، عبر المتساكنون أيضا عن تخوفهم من انعكاساته على منطقتهم، إلا أن التحذيرات المتتالية لم تجد أي رد أو تفاعل يذكر من قبل السّلط المحلية، مثلما يوضّح أيمن الرفرافي ورمزي بن مريم، بعض من متساكني مدينة رأس الجبل.

من جهته، يقول أستاذ التاريخ والجغرافيا، أنور الغضبان: "عموما عندما ندلي بملاحظات في مسائل مماثلة تكون الإجابة: أنت لست مهندسا لتناقش أمورا تقنية". ويتساءل محدّثنا في ذات السّياق إذا تمت دعوة الأطراف المتداخلة محليا للبحث في جدوى المشروع ومشروعيته من عدمها.

عن ذلك يجيبنا رئيس بلدية رأس الجبل، جلال الدين برحيمة بأن مشروع حماية رأس الجبل من الفيضانات هو مشروع أنجزته وزارة التجهيز وأنه لم تتم استشارة البلدية. " تقنيو الوزارة هم من تكفلوا بإعداد المشروع منذ أربع أو خمسة سنوات. لا وجود لصيغة تشاركية ولم يتم أخذ اراء المواطنين، هذا مشروع وطني"، ويضيف: "نحن لسنا بتقنيين لنتابع هذا المشروع، ودورنا يقتصر على متابعة تقدمه ليس أكثر".

تسجيل صوتي لرئيس بلدية رأس الجبل

للوقوف على تفاصيله التقنية، توجهنا الى فافا مقديش مهندسة أشغال ببلدية رأس الجبل والتي أكدت لنا عدم إلمامها بأي معلومة تخص المشروع قائلة: "إن حماية رأس الجبل من الفيضانات هو مشروع تحت إشراف وزارة التجهيز."  وتنفي مقديش أي صلة تربطها او تقنيي البلدية بأي مرحلة من مراحل إعداد المشروع "نحن لم نقم بمتابعته كما لم يشرف احد من البلدية على انجازه. لا اعلم إن تم الأمر بصيغة تشاركية أم لا، إن دوري يقتصر على الجانب التقني ليس أكثر".

يوم الثلاثاء 18 مارس 2020 أدّى وزير التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية زيارة ميدانية لمعاينة سير أشغال حماية مدينة رأس الجبل من الفيضانات بحضور السلط المحلية والادارية والبلدية وثلة من أعضاء مجلس نواب الشعب.

زيارة عقبتها عدّة لقاءات أخرى في مختلف مراحل انجاز المشروع.  

زيارة ميدانية للسلط المحلية إلى حظيرة أشغال مشروع حماية رأس الجبل من الفيضانات

يؤكد المدير العام لإدارة المياه العمرانية نجيب بن شيخة أنه بعد أن تم رصد اعتمادات مشروع حماية رأس الجبل من الفيضانات انتظمت في بلدية رأس الجبل جلسة على المستوى المحلي لتحديد أولويات التنفيذ. 
ويقول محدّثنا: "عملنا على تشريك البلديات في هذه المشاريع منذ الإعلان عن نتائج الدراسة كونها السلطة المتواجدة على عين المكان والأقرب إلى متساكني المنطقة. عقدنا عدّة جلسات مع بلدية رأس الجبل وكانت حريصة على إنجاز المشروع،  أما السيد الرئيس كان على متابعة لصيقة بالمشروع.".
 

  

 أعدّت وزارة التجهيز والإسكان بين سنتي 2017 و2018، دراسة شاملة لحماية رأس الجبل من الفيضانات. وبينت الدراسة أنه لحماية هذه المعتمدية من الفيضانات لابد من إنجاز العناصر التي يكشفها الرسم البياني التالي:

 

مشروع حماية من الفيضانات "لمدينة محمية طبيعيا من الفيضانات"

بالعودة إلى خصائصها الجغرافية تتموقع مدينة رأس الجبل في منطقة منبسطة تتوسط سلسلة من المرتفعات المنحدرة من جهة، والضفاف الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى.

موقع المدينة الجغرافي يجعل المياه تمر بطريقة انسيابية من المناطق الجبلية في أودية صغيرة تسمى (الشعاب) تلتقي في الأودية كواد القنطرة من الجهة الغربية والجنوبية وواد العجول من الجهة الشمالية، وتتوجه الى المنطقة المنبسطة دون المرور الي التجمع السكني، ومن ثمة تسير في اتجاه البحر بطريقة طبيعية. 

في أوائل الثمانينات تعرضت مدينة رأس الجبل إلى تدفق مياه قوي من المناطق الجبلية وهي الحادثة الوحيدة المشابهة لفيضانات أكتوبر 2021. 

يفسر أستاذ التاريخ والجغرافيا أنور غضبان أسباب ذلك إلى سدم المجاري المائية بفضلات المواد الصلبة التي يلقيها المتساكنون في بعض المجاري المائية، أمر جعل المياه تضطر إلى التدفق إلى المنطقة الأكثر انبساط في اتجاه المدينة.

ويؤكّد أنور غضبان أن مياه الفيضانات في ذلك الوقت لم تكن محملة بالحجارة والطاميات مثل ما حدث في السنة المنقضية "نحن في منطقة تتجاوز معدلات أمطارها 500/600 مليمترا في العام، وفي سنوات معينة وصلت إلى 1200 مليمترا كأقصى حد. رغم ذلك لم تحصل كارثة مماثلة. إن المشروع المنجز بتكاليفه الباهظة أكبر خطأ تاريخي في رأس الجبل".

وبخصوص الحل الأنجع لحماية رأس الجبل من الفيضانات يرى أستاذ التاريخ والجغرافيا أنه يكمن في الردع لكل مخالف يلقي بالمواد الصلبة بالأودية والمجاري المائية، مع ضرورة جهر الأودية أواخر صائفة كل سنة بطريقة تسمح باستقبال الكميات الهامة من الأمطار.

 نقاط استفهام لصيقة بالمشروع

في مسار بحثنا، سجلّنا انتقادات متباينة موجهة لمشروع حماية رأس الجبل من الفيضانات، ويذهب جلها إلى القول بردم بعض المجاري المائية وتغيير مجرى الأودية ومساحتها.
لتأكيد هذه الاتهامات أو نفيها توجهنا إلى مهندس برأس الجبل كان على دراية بتفاصيل هذا المشروع التقنية. وما إن حدثناه عن موضوع مقالنا لم يعد يجيب على إتصالاتنا.
في هذا السياق ينفي المدير العام لادارة المياه العمرانية نجيب بن شيخة ردم مصالح ادارته لأي مجرى مائي موضحا:     "وزارتنا تقوم بتهيئة الأودية لا ردمها. ثمة مجرى مياه متأتي من مدينة رأس الجبل في اتجاه بنزرت ويمر على المناطق العمرانية كان يمنع تنقل المتساكنين في الأيام الممطرة". ويفسر بن شيخة أن وزارة التجهيز والاسكان "قامت بتهيئة هذا الواد بقنوات من الخرسانة المسلحة حتى يتمكن المواطن بسيارته أو على الأقدام من التنقل الى منزله دون انتظار انخفاض مستوى المياه".
 
جزء من مجرى واد العجول أين وقع تعويض مجرى المياه الطبيعي بقناة أسمنتية. (صور من أرشيف الاستاذ انور الغضبان)
في المقابل لاحظ بعض المتساكنين.ات أن المياه أبت أن تتخذ مسار القنوات التي تم وضعها، معتبرين ذلك سببا من مسببات "الكارثة" التي حلت بمدينتهم في شهر أكتوبر.
ويربط رئيس المكتب المحلي لنقابة الفلاحين برأس الجبل محيي الدين بن حسين هذا الأمر بتغيير مساحة واد القنطرة من 3 متر على 3 متر  إلى متر على متر واحد، واصفا هذا الإجراء بأكثر الأخطاء فداحة قد وقع ملاحظتها على مستوى تنفيذ المشروع.
يوضح رئيس البلدية جلال الدين برحيمة أنه منذ توليه منصب رئيس بلدية رأس الجبل عمل جاهدا مع وزارة التجهيز لإنجاز مشروع حماية المدينة من الفيضانات. وما حدث أنه عند اكتمال المشروع وقع اكتشاف بعض العيوب، الأمر الذي جعله يجري اتصالات مع وزارة التجهيز والشركة القائمة على المشروع لإصلاح ما يمكن اصلاحه.
ومن العيوب التّي اقرّ بملاحظتها رئيس البلدية: ضيق منطقة استقبال المياه في القنوات المنجزة وعدم هيكلتها بشكل كاف، واعتماد قنوات مائية بمساحة متر على متر أو متر ونصف، الأمر الذي لا يخول للمنشآت المائية استيعاب منسوب هام من مياه الأمطار.  "المساحة المستغلة هي المساحة التي كانت متاحة، لا يوجد حل آخر. كما أن قياسات المنشآت المائية تحددها الدراسة التي انجزتها المصالح الفنية للوزارة وصادقت عليها"، هكذا يبرر نجيب بن شيخة، المدير العام لإدارة المياه العمرانية ضيق مساحة القنوات المنجزة بضيق المساحات المجاورة للمجاري المائية.
فيديو: تصريح المدير العام لإدارة المياه العمرانية:
 
 
ويعتبر بن شيخة أن القياسات التي تم تحديدها يمكنها استيعاب كميات معينة من المياه. وأنّه من الممكن انجاز منشآت تتلقى كميات مائية مهما بلغ حجمها لمدة مئة سنة لكن كلفتها ستكون اكثر بعشر مرات من الكلفة المتاحة، وفق تعبيره.
صورة لأشغال مشروع حماية رأس الجبل من الفيضانات نشرتها الصفحة الرسمية للبلدية يوم 11 سبتمبر 2020.
مناطق جبلية غير محمية
تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صورا وفيديوهات وثقت حجم الأضرار الناجمة عن الفيضانات.
وتكشف هذه الفيديوهات عن سيول قوية تتدفق بنسق سريع محملة بكميات هامة من التربة. 
 

 (مصدر الفيديو: صفحة جمهورية رأس الجبل العظمى.)

يفسر كلا من المدير العام لإدارة المياه العمرانية ورئيس بلدية رأس الجبل سبب ذلك بمساهمة السيول القوية  في انجراف التربة بالمناطق الجبلية واختلاطها بمياه الأمطار.

يقول رئيس البلدية إن جميع العيوب المسجلة في هذا المشروع مرتبطة بجميع الأطراف المساهمة. وانه كان على وزارة الفلاحة تأمين المناطق الجبلية، علاوة على وضع قنوات لإحتواء المياه المتدفقة. "نعتبر هذا الأمر خطأ فادحا، لا أعلم إن كان ذلك خطأ تنفيذ أم خطأ في الدراسة، لم يمنحوني الدراسة لمتابعتها".

اتعقدت يوم الخميس 10 من فيفري 2022  ببلدية رأس الجبل، جلسة للنظر في "الاشكاليات المطروحة حول مشروع حماية مدينة رأس الجبل من الفيضانات وسبل معالجتها". وحضرت في هذه الجلسة الأطراف المتداخلة في المشروع والمتمثلة في رئيس البلدية والمندوب الجهوي للفلاحة والموارد المائية والمدير العام لإدارة المياه العمرانية. 

وفي تصريح لنا أكدت إدارة المياه العمرانية انه على ضوء الفيضانات الأخيرة سارعت وزارة التجهيز إلي برمجة القسط الثاني من المشروع بكلفة مالية تقدر ب5 مليون دينار، وانه سيتم الاعلان عن طلب العروض موفى هذا الشهر بعد التنسيق مع الأطراف المعنية.

فهل من حلول ؟ 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.