زيد أبو حمدان.. المخرج الذي بث صرخات النساء العربيات في “بنات عبد الرحمان”

يسرى الشيخاوي- جدّة/ السعودية


"بنات عبد الرحمان"، الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج زيد أبو حمدان، فيه امتداد لصرخات النساء العربيات اللاتي يرزحن تعت عبء السلطة الذكورية المتلوّنة في أكثرمن مظهر.
بعد خمسة أفلام قصيرة، يأتي هذا الفيلم ليؤكّد فرادة أسلوب هذا المخرج الذي يجيد تحريك كل الخيوط دفعة واحدة ومملامسة قضايا كثيرة بسلاسة وإمتاع.
والفيلم الذي رأى النور بعد سبع سنوات من الإعداد، من بطولة صبا مبارك وحنان حلو وفرح بسيسو ومريم باشا وخالد الطريفي والطفلة ياسمينة العبد، وفي تفاصيله سيل من النقد الموشح بالكوميديا والإضحاك البعيد عن السطحية والابتذال.
وسيناريو الفيلم قائم على قصة "عبد الرحمان" رجل مسن صاحب مكتبة في منطقة الأشرفية بالعاصمة الاردنية عمان، رحلت زوجته تاركة أربع بنات "زينب" و"آمال" و"سماح" و"ختام"، لم يلتفت لهن الأب وهو يختار كنية لنفسه واستجار باسم "علي" في رفض لكونه أبو البنات.
وكلما تدفق السرد في الفيلم برهن عمق الحبكة الدرامية في الفيلم وعمقها وغاص أكثر في زوايا لا تخلو منها كل المجتمعات العربية، زوايا سماتها الازدواجية والنفاق والاختباء وراء وهم الفضيلة.
على إيقاع حيوات "بنات عبد الرحمان" المختلفة والمبنية على تناقضات تعرّي علل المجتمع، تتواتر الأحداث وتتبادل حيوات الاخوات الأربعة لتروي معاناة النساء وتستنطق صرخاتهن المكتومة.
فيما تدس زينب ( فرح بسيسو) أحلامها بين بقايا الأقمشة وتناجي عودها بعيدا عن الأعين لأنها اختارت أن تعيل والدها الذي بلغ به الكبر عتيا، تعانق آمال (صبا مبارك) عنف زوجها وتستقبل ضربه دون مقاومة، وتلاحق سماح (حنان حلو) السراب وهي تحاول ان تثبت خيانة زوجها الثري، وتتمرد ختام (مريم باشا) على كل العادات وتنتقل للعيش مع صديقها.
هذه القصص المختلفة تجتمع عند سلطة الأب الذي لم يستمع يوما إلى قلبه بل كان دائما منصاعا للعادات والتقاليد ومتحسرا على الولد الذي لن يأتي حتى أنه يرجح كفة موت بناته على كفة الطلاق أو أي شيء آخر لا يرضي الناس من حوله.
وفي مشاهد الفيلم التي استدر أغلبها تصفيق الجمهور في عرضه في مهرجان البحر الاحمر السينمائي الدولي حتى بدا الأمر أشبه بالتفاعل الحيني مع عرض مسرحي، رواية واقعية لمدى صعوبة أن تكوني إمرأة في مجتمع سلطوي.
فمنذ أن تغادر الأنثى أحشاء والدتها تجد نفسها في مواجهة سيل من الوصايا والأحكام التي تتلقّاها على دفعات حتى تمتلئ بها وتثقلها حد الاختناق الذي صوره فيلم "بنات عبد الرحمان" بتمظهرات مختلفة. ليس من السهل أن تتخطى المراة كل تلك الحواجز التي نُثرت في سبيلها، المشية محدّدة مسبقا والوقفة وطريقة الجلوس وأسلوب البكاء والضحك وقوانين التعامل مع تفاصيل الجسد حتى لا تلمحها أعين الغرباء وتطلق العنان لألسنتهم، وهو ما صوره الفيلم بشكل كوميدي.
والمرأة في المجتمعات العربية لا تعاني  من الذكورية فحسب بل هي تتأذى أيضا من نساء اصطففن في الضفة الأخرى واستبطن قواعد محاكمة المرأة التي لا تُحصى.
عمد كثيرة شيّدها الناطقون باسم المجتمع أحيانا وباسم الرب كل حين حول المرأة، جسدها، وفكرها، ووصايا كثيرة أشبه بالأشواك تخزك حيثما وليت وجهك، أطر رسمها المخرج في فيلمه وروت الممثلات وجعها وأثرها النفسي، ليكون "بنات عبد الرحمان" تجربة حسية وجودية جعلت من "اللاءات" التي يرميها المجتمع في طريق النساء مشاهد درامية وأخرى كوميدية تقشعر لها الأبدان.
سيل من التناقضات يتبدّى في الفيلم وتبوح الشخصيات بدواخلها حينما تختفي سلطة الأب، ويتجلى حجم الضرر النفسي الذي يسببه الاهتمام الأعمى برأي الآخر فيك.
مفارقات كثيرة تتناثر طيلة الاحداث وتكشف الهوة بين الظاهر والباطن ولكنها تفضي في النهاية إلى التصالح مع الذات وإلى الكفر بكل العادات التي تجعل منك منسخة عن غيرك وتسلب عنك إنسانيتك وتسرق منك أحلامك التي لن تظهر إلى العلن مجددا.
كل ما في الأمر ان المرأة تهرب إلى أحلامها المسروقة حينما يضنينها أداء دور فُرض عليها، تهرب إليها إذ اختلت إلى نفسها بعيدا عن أعين قد ترصد فعلتها، وهذا ما أظهرته شخصيات الفيلم باستثناء "ختام"وكأن المخرج يقول ختامها حرية وتخلص من كل قيد؟
وراء "زينب" و"آمال"، و"سماح" كثير من الأسرار التي تنكشف تباعا على إيقاع تعجز فيه عن تحديد مشاعرك في اللحظة ذاته ويتماهى الضحك مع البكاء وانت تستحضر الظلم الذي طال المرأة بأشكال مختلفة، من العنف الجسدي والاستغلال والتمييز القائم على أساس الجندر، وزواج القاصرات.
عنف مادي ومعنوي ورمزي، روته كاميرا زيد ابو حمدان ولاحقت تفاصيله في تعبيرات الممثلات، في ملامحهن ونظراتهن وإيماءاتهن وصمتهن المثقل بالكلام وقدرتهن على التقلب بين حالات انفعالية متناقضة وطريقة القائهن للنص المحمل بالوجع والمعاني.
دمعات وابتسامات وقهقهات وصرخات وشكاوى كامنة في القلب، تبعثرت في الفيلم لتفضي في النهاية إلى كسر كل الأغلال في رحلة البحث عن الأب المختفي، رحلة ذوبت الجليد بين الاخوات الأربعة ورأبت الصدع الذي خلفه المجتمع.
وفي مقبرة التام الشمل وتهاوت المسافات بين عبد الرحمان وبناته، في إشارة إلى أن العادات البالية والمتخلفة مآلها الطبيعي الدفن، ومن هناك انكسرت كل الأغلال وارتسمت ملامح حياة جديدة.
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.