“أما بعد”.. عن التجربة القصصية التي كسرت القيود

يسرى الشيخاوي-

"أما بعد"، مجموعة قصصية تماهت فيها هواجس شابات وشبابمن منطقة الكرم وتجلّت فيها رغبتهم الجامحة في أن يكسروا كل القيود التي شكلها المجتمع ويتجاوز كل الأطر التي خلقتها الوصايا والعادات والتقاليد.

في هذه التجربة الأدبية والوجودية، حرر المؤلفون الشبان صرخة الرفض دواخلهم وأعلنوا ثورتهم على المسلمات والأحكام المسبقة وقارعوا بأرواح مكشوفة كل النظم المتخلفة.

العنف داخل زنزانات السجون، والاغتصاب، وغياب الأب، والعنف الذكوري وتحقير النساء، الجنون واليأس، بعض من ملامح المواضيع التي آواها المؤلف الجماعي، مواضيع تنم عن نضج ووعي بواقع الحال في المجتمع التونسي.

والمؤلف الذي خُلق من رحم ورشة كتابة جماعية أطلقتها جمعية"مبدعون" بإشراف من الروائي أمين الحسيني، بعض من أنفاس الثورة التي تسكن كتابه، وامتداد لتعبيرات الحرية والتحرر، وإيذان بانجلاء الليل على وقع أنشودة الحياة التي يتلونها.

همسات المؤلفين، ضحكاتهم المتناثرة، حروفهم المتمرّدة، كلماتهم المعمّدة بالحياة، أفكارهم الثائرة على الأطر، تمثلاتهم  للواقع من حولهم، صارت كتابا نُشر وقدّم بالتعاون مع دار "نقوش عربية للنشر" خلال الدورة السادسة والثلاثين من معرض تونس الدولي للكتاب.

خديجة الكوكي، وإيناس الجفالي، وحسام الدين شعبان، وحسام الرياحي، ذوات تلاحق الحرية حيثما كانت، تستجير بالكتابة من سوداوية الواقع، وتنسج من اليأس والالم جماليات خارج الاطر.

هذه الذوات الشغوفة بالكتابة، وجدت ملاذا ومتنفسا في الورشة التي يؤطرهاالروائي أمين الحسيني، ورشة ضمن برنامج فني متكامل بعنوان "برنامج الإيقاظ الاجتماعي والمواطني"، وهو يشمل عدة تفرعات من مسرح ورقص وصوت وغيرها من الاختصاصات الفنية لفائدة شابات وشباب منطقة الكرم الغربي خاصة خلال فترة انتشار جائحة الكوفيد.

ومن خلال الأصداء التي تتواتر بخصوص الكتاب، يبدو أن المؤطر أمين الحسيني أفلح في أن يستنطق مكامن الإبداع في مؤلفي الكتاب فانسابوا ليكسروا كل الأغلال التي وضعها المجتمع وحلقوا على أجنحة الحروف بعيدا بعيدا حيث تبتسم الحرية ملء شدقيها.

نظرة خاطفة على مواضيع القصص في "أما بعد" تحيلك إلى عمقالمؤلفين ورهافة حسهم وقدرتهم على إعادة صياغة الواقع بملامح أخرى تشبه إصرارهم على أن يكونوا مختلفين.

اغتراب الذات، هو الموضوع، الذي شكلت منه خديجة الكوكي معالم حكايتها لتنطلق من شخصية باثولوجية مصابة بـ"الاكتئاب الباسم"، لتراوح بين التفاؤل والإحباط والمرج والحزن وتزج بالقارئ في متاهة سؤال عن ماهية وجود الإنسان مستندة إلى ثنائيات الحقيقي/النسبي، المعنى/اللامعنى، الحياة/الموت.

أما  إيناس الجّفالي، فحاولت بأسلوبها أن تتطرق إلى قدرة الإنسان على مواجهة الظروف المسلطة عليه عبر إثارة الصراع بين الفرد والمجتمع، لتنتهي إلى أن الإرادة وحدها هي التي تنأى بالفرد عن بوتقة الانهزام والانكسار وتنتشله من دور الضحية الذي لن ينجح معه في أن يكون وليا وسيدا على كل تفاصيل حياته.

فيما عكف حسام الدين بن شعبان على تشريح هاجس المثقف المعاصر، هاجس يكمن في قضية الاغتراب في بعديه الداخلي والخارجي، وبين الذاتي والموضوعي في مسألة الاغتراب يجر القارئ إلى خفايا الشخصية المحورية ويجعله يقاسمها القلق والاضطراب، ليتبين في الأخير انك تجول في ثنايا طبيب نفسي.

وفي النصّ الأخير خاض حسام الرّياحي في ظاهرة اجتماعية مستشرية في الأوساط الشعبية من خلال تعداد بعض السلوكيات المحفوفة بالمخاطر التي يرتمي المراهقون في أتونها، وعبر الغوص في هذه السلوكيات لا يكتفي بتوصيفها والحديث عن انعكاساتها بل يحاول أن يلامس الأسباب الكامنة في وجودها وفي تعميقها.

عن جمعية "مبدعون" 

ولمن لا يعرف جمعية "مبدعون"،هي  منظمة غير حكومية ذات تأثير اجتماعي تسعى إلى الإحاطة بالشباب ليصبحوا قادة في الديمقراطيّة الناشئة في تونس وليشاركوا في إرسائها بطريقة إبداعيّة وسلميّة.

عُرف عن جمعية مبدعون خبرتها المحلية الميدانية ومرافقتها للشباب القاطن بمنطقة الكرم الغربي، وهي من الأحياء الشعبية الموجودة في الضاحية الشمالية والموصومة بالعنف وبكونها تحتضن أفراداً ينتمون إلى تنظيم أنصار الشريعة.

جدير بالذكر أن جمعية مبدعون استهلت نشاطاتها في منطقة الكرم الغربي بدراسة علمية تحت عنوان "المراهقون في الكرم الغربي: سبع سنوات بعد ثورة 14 جانفي؟" أنجزها أكاديميون مختصون في علم الاجتماع من جامعة تونس، وقد خلصت هذه الدراسة إلى تحديد الأسباب الكامنة وراء التطرّف العنيف، كما قدّمت أيضاً جملة من التوصيات العمليّة التي بإمكانها الحدّ من هذه الظواهر.

ونظراً لقيمتها العلمية صارت هذه  الدراسة من المراجع الأساسية على النطاقين الوطني والعالمي لتفسير وفهم الدوافع المتسببة في العنف بهذه المنطقة، واستناداً إليها رصدت جمعية "مبدعون" جملة من المشاريع التي تهدف إلى الحدّ من هذه الظواهر وتقليص حدّة الوصم الاجتماعي الذي لحق بمنطقة الكرم الغربي جرّاء ما سبق توضيحه.

عن برنامج "الإيقاظ الاجتماعي والمواطني"

برنامج "الإيقاظ الاجتماعي والمواطني" هو برنامج مخصص لفائدة الشباب في منطقة  الكرم الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و 25 عامًا، يهدف بالأساس إلى معالجة مواضيع مرتبطة ارتباطا وثيقا بحياتهم اليومية (الإدمان، العنف، الحقوق، الالتزامات، المساواة، الحرية، أنا والآخر، قبل الثورة …) بطريقة تفاعلية وفي شكل لعبة.

وهو يرتكز على دورات تدريبية تعتمد على مناقشات جماعية يقودها عالم اجتماع يتم خلالها تناول موضوع مختلف في كل جلسة ثم تتم مناقشتها اعتمادا على لعبة ورق تم صنعها خصيصًا لتنتفع كل مجموعة مشاركة في البرنامج بــإثنتي عشرة ورشة عمل لمدة ساعتين لمعالجة جميع المواضيع.
واستهدف الجمعية الشابات والشباب في مختلف مدارس الكرم، بل ومن  خارج الوسط المدرسي، من خلال إشراكهم في الأنشطة الفنية في ورش عمل الصحوة الاجتماعية. والهدف من ورش عمل الصحوة الاجتماعية وصحوة المواطن هو تمكين الشباب من أن يكونوا قادرين على التساؤل عن سلوكهم تجاه الفرد وكذلك تجاه المجتمع.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.