فيلم “لنتريت” في سجن المهدية .. عن الموت قبل الأوان

يسرى الشيخاوي- 
في السجن المدني بالمهدية، كان المودعون على موعد مع قصة محملة بالرسائل والمعاني، قصة تولدت تفاصيلها من اليومي القاسي والموجع والمدنّس بالنفاق والزيف وأفضت إلى فيلم "لنتريت". 
"لنتريت"، روائي قصير مدته خمس عشرة دقيقة تحملك فيها كاميرا المخرج إلى عوالم حسية وعاطفية تراود عبراتك وتخاطب الإنسان داخلك وتجعلك تتفكّر في الواقع من حولك، واقع طغى عليه الشر الذي يتّخذ تمظهرات مختلفة. 
في قاعة العرض التي غدت ملاذا وفضاء تنتفي فيه فكرة السجن وتسري فيه الحرية لتعانق الأرواح، لاحقت أنظار المودعين مشاهد الفيلم التي تحرك فيك النقد والتأويل وتدفعك إلى مساءلة كل شي من حولك. 
من فعل الانتظار تتولّد احداث الفيلم وتغوص بك الكاميرا في زوايا عاطفية تهز كيانك وتحملك إليك سيلا من الذكريات والإسقاطات التي تختزل معنى الموت قبل الأوان، الموت في بعدها المادي والمعنوي. 
قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية يطرحها الفيلم بأسلوب بسيط وبتقنيات تصوير مطرزة بالجمالية وبسيناريو طرزته الكاتبة بلقيس خليفة بالصدق والعمق فلا يسعك إلا ان تعايش أحاسيس الشخصيات وتختبر قدرتها على الصبر والجلد في مواجهة حقيقة مؤلمة. 
من قصة زوجين(بشير الدريسي وهيلان كاتزاراس) بلغ بهما الكبر عتيا واستبدت الامراض بجسديهما حتى أثقلتهما، يعري الفيلم وجه موحشا للحياة لا يمكنك النظر إليه مطوّلا لولا ابتسامة الزوجين التي تقارع أكثر من عدو.
وهما يغالبان المرض والحاجة بحنوّهما على بعضهما البعض ينتظران حوالة بريدية تحمل جراية تقاعد الزوج وعبثا ينتظران ويتحوّل الوضع شيئا فشيئا إلى تراجيديا وسط انطاع الأموال التي يرسلها الابن ويبحث الزوج الذي يتحامل على نفسه ليقدر على المشي عن منافذ أخرى لقطع الطريق أمام الجوع.
انتظار أمام مركز البريد تخال انه بلغ دهرا حينما يكتسي محيا الرجل الخذلان والعاملة بالبريد تخبره أن حوالات التقاعد لم تصل بعد، يجر قدميه وأذيال الخذلان ويبحث في العيون عن بعض الأمل في أن يدينه أحدهم أموالا تجنبه تلافي النظر في عيني زوجته.
بائع المواد الغذائية حجب عنه "الدقيق" و"الزبدة"، بائع يزيّن وجهه بلحية وترتسم أمارة الصلاة على جبينه لكن في قلبه مرض لا شفاء منه، مرض جعله يكسر خاطر شيخ أحنت الحاجة ظهره.
رحلة الخذلان لا تنتهي هنا، بل تستمر وتتخذ منحى دراماتيكيا في كل مرة، ويشيح رفيقا السنين بوجهيهما عنه وكأنه غير موجود ويتلاشى الأمل الأخير في أن يتحصل على بعض المال ويولي وجهه شطر المسجد حيث عانق عزرائيل بعد ان صافح الموت في تلوينات مختلفة. 
ولو اجتمعت كلمات العالم على أن تصف نظرات الرجل وهو يربت بيده على شعر طفل يبيع الحلوى والدخان حينما طلب منه أن يبتاع منه شيئا، لا رصيد له سوى حنان ومحبة لا مكان لهما في سوق الواقع.
من المفارقات، أن الطفل الذي يحاول الخلاص على طريقته هو الذي اغدق حنانه على الرجل وتقاسم معه طعامه ولكنه حينما دنا منه كانت روجه قد حلقت إلى الأعلى حيث لا ينتظر النتقاعدون جرايتهم وهم ينفقون كرامتهم في سبيل تحصيل بعض الاموال. 
لما رحل الرجل حل ساعي البريد لينبئ زوجته بوصول الحوال، مات إنسان قبل الاوان وحل المال بعد فوات الأوان وسقطت كل الأقنعة على قارعة الانتظار وتهاوى الزيف الذي سكن القلوب والنفوس. 
إلى جانب النص المخطوط بنبض القلب وبرقة الروح والإخراج المعمّد بالجمالية، يشدّك في الفيلم اداء الممثلين بشير الدريسي وهيلان كاتزاراس، أداء صادق وعفوي لا مبالغة فيه. 
وأنت تقتفي أثر حركاتهما وسكناتهما وإيماءاتهما وكل تعبيراتهما طيلة الفيلم يأسرك التناغم بينهما وقدرتهما على سرد أحاديث كثيرة دون كلام، لكلا الممثلين قدرة رهيبة على التخاطب بلغة العيون.
وفي ادائهما شحنة من المشاعر التي تجعلك تعتقد لوهلة انك امام فيلم تسجيلي وان الامر لا يتعلّق بفيلم روائي لما في الدورين من سلاسة ومرونة واستنطاق لمشاعر دفينة وترجمة لواقع ساده اليأس ولكن الأمل مازال يقاوم، والسلاسة والبساطة في الأداء تنسحب أيضا على الممثلين رياض حمدي وأيوب العشي ورحمة الكافي.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.