“سينوج” في منجم الجريصة.. حكاية مدادها من حنين

 يسرى الشيخاوي- 

مرة أخرى، تهجرني الكلمات وأنا أحاول الكتابة عن المدينة التي حضنت أولى خيباتي وحماقاتي وانتصاراتي وهزائمي وآوت بين ثناياها أنفاسي وابتساماتي وعبراتي وخواطر العشق الاول.

ألاحق الحروف دون جدوى وتتراقص الذكريات ويتراءى لي وجه حبيبي الاسمر ولا تطالعني بداية النص وارتبك بعدم قدرتي على إعلان ميلاده وانا استحضرعنوان الاغنية التي أرسلها حبيبي ذات فراق ولا أحضن عنوانا يراود كلماتي وترتسم معه ملامح النص. 

وابواب الذاكرة مشرعة امامي، على امتداد الطريق الممتدة من تاجروين إلى الجريصة حيث تعانق موسيقى "بنجامي" بقايا الحديد في منجم الجريصة ضمن عروض مهرجان سيكا جاز في دورته السادسة التي تأتي في حلة متفرّدة تتماهى فيها الموسيقى بالمعالم الأثرية والمنجمية.

وعند اللافتة التي تربعت عليها "الجريصة" وهي تتوسط سماء صافية تتوه النظرات في تفاصيلها، يشتد الامر صعوبة وتجتاحني الذكريات ولا افكرسوى في الرجوع على أعقابي.

أنفاسي مضطربة وعيناي تتأرجحان على إيقاع الحروف الهاربة وأنا أربّت على  كتفاي وأضغط بيمناي على شمالي لأخبرني انني قوية بما يكفي لأواجه كل الوجع الذي يسكنني وأسكته كلما سعى إلى البوح.

ليس من السهل أن أكتب عن فيلم كتبت تفاصيله بكل حب لكن السيناريو تمرّد علي،ليس من السهل أن أكتب عن مسرحية رسمت مشاهدها بخطواتي لكن الخشبة لم تستوعب احلامي وهوت، ليس من السهل أن اكتب عن موسيقى عمّدتها نبضات قلبي فاقتتات من دمعي.

ليس يسيرا  أن أكتب عن هزيمة بطعم الانتصار ولا أن أمرر أصابعي على كل تلك الندوب التي شهدت عليها أركان الجريصة، ليس يسيرا أن تعود إلى نقطة البداية بعد ان أوهمت نفسك انك تجاوزتها.

سيل من الأفكار يعصف بذاكرتي ويهز الرفوف المنسية والذكريات تمد أياديها نحوي لتغرقني في تفاصيلها وأنا هنا أغالب رغبة جامحة في البكاء واقطع الطريق على عبراتي وأفتح باب السيارة برفق خشية ان أدوس على ذكرى ما.

لا شيء يقطع سطوة أفكاري سوى بعض اللحظات اقتنصتها لالتقط صورة لتلك اللافتة، يخال الناظر إلي أنني حفظتها في ذاكرة هاتفي لكنني في الواقع آويتها قلبي.

وفيما أتفحص المكان بعيني أبحث فيه عن وجوه الراحلين وحكاية الطفولة والصبا، يلاعبني القدر ويختطف مني ضحكة حينما مر رجل وحماره من جانبي وطلب مني ان أصوره وهو يحاول ان يلقي علي التحية بلكنة أنجليزية.

في البدء ضحكتُ وانا التقط صورة للرجل الذي كفّر حينها عن ذنب حبيب لن أشفى منه، ولكن يبدو انني ألفت الشجن فالعودة بالذاكرة لحظات إلى الوراء جعلتني أستشعر الغربة في قريتي التي عانقت فيها الحياة وصرخت في وجهها صرختي الأولى.

لن أبكي وعد قطعته على نفسي وانا أتهيأ لدخول الجريصة ولم اكن أعتقد ان الامر صعب جدا أصعب من التعود على الحزن وقدماي لا تقدران على حمل كل تلك الدموع الساكنة في مقلتي، ولا حل إلا الرجوع إلى السيارة حيث تخمد الذكريات ولا تتأجج حذو اللافتة.

من خلف الكمامة أرسم على شفتي ابتسامة تحتمل اكثر من توصيف ولكنها في الواقع ليست ابستسامة إنما هي دمعة ظلّت طريقها، وأواضل الحفر في ذكرياتي وأمر حذو الرصيف الذي شهد قهقهاتي وانا أقفز عليه وحفظ صرخاتي وانا أحاول ان انجو من عجلات شاحنة كبيرة جذبتني إليها في ذروة اللعب.

ذكرى تخلف ذكرى وأنا منتشية بحالة الحزن المشوبة باغتراب ولكن ما إن اصطدمت عيناي بمحل "سيدي" (جدي) لبيع الخضر والغلال حتى أحسست انني تملكت كل المكان وسرت الحياة في جذوري الممتدة فيه.

المحل الآن في عهدة شخص آخر لا أعرفه ولكنه ربما يعرف "سيدي" ولكن كل ما اعرفه أن روح "سيدي" رفرفت هنا وأنه مرر يديه على شعري وعلى وجنتي وهمس في أدني ألا أبكي ولن أبكي.

في هذا العالم او في عالم آخر، لـ"سيدي" وحده القدرة على تعديل مزاجي وهاهو مرة أخرى يمتص كل حزني ويشحنني بكثير من الأمل وينثر أمامي الحنين فأهرع إليه وأنا أواصل السير نحو منجم الحديد. 

وفي منجم الحديد فصل آخر من القصة، هو الآخر مغمس في الحنين، هناك تقاسمت وأترابي ومعلمي الاحاديث في رحلة مدرسية وهناك سمعت حكايات كثيرة عن عمال المناجم،هناك تعلمت أن أكون صلبة كالحديد وإن كنت اتهاوى من الداخل. 

وعلى إيقاع نسمات رقيقة، مالت الشمس إلى المغيب والقت بهالة من الالوان الممتدة بين البرتقالي والاحمر على المكان وعانقت بقايا المنجم الصامد في وجه النسيان وفريق تنظيم مهرجان سيكا جاز يهيئ منصة العرض.

بعد وقت مقداره سيل من الحنين والذكريات، صدحت موسيقى "بنجامي" في الأرجاء وتبدّت ملامح عرضه " سينوج" الذي تتماهى فيه الموسيقى الصوفية والالكتروجاز.

وفيما خيوط الليل تغازل بقايا المنجم الشامخ، تتسلل النوتات الثائرة من بين التجاويف وتملأ الأثير حماسة وتسري بين جمهور جذبته الموسيقى فلبى النداء واستسلم لسحر الألحان المتمردة والنسامات العابقة بحكايات عمال المناجم.

ومثلهم استسلمت لتفاصيل عرض "سينوج" وتذكرتُ "دادا"(جدّتي)  حينما دسّت حبات السينوج السوداء في ميدعتي لظنها أن عينا أصابتني ولم يصبني سوى الحب، الآن مرة أخرى أغرق في تفاصيل المنجم وأتحسس حمرة الحديد وسط العتمة وأسد كل المنافذ عما تبقى من ذكريات وأتوه في ثنايا "نمدح القطاب" وقد وشحتها الموسيقى الالكترونية.

 صورة: دريد السويسي

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.