يسرى الشيخاوي-
"اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية، بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس .. أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه"، كلمات للشاعر مظفر النواب تقفز إليك وانت تجول بين التعليقات التي أدرّها مسلسل "حرقة" الذي يعرض على الوطنية الأولى..
"حرقة" الدراما الاجتماعية التي تضع أصابعها على داء الهجرة غير النظامية الذي نخر القلوب وخلف فيها حُرقة لا تتلاشى بمرور الزمن بل تتعتق ويزداد وجعها عمقا مع كل حادثة غرق جديدة.
هي إعادة إنتاج للواقع كما هو دون مساحيق تجميل حتى تخال أنك أمام فيلم وثائقي تسجيلي يحمل إليك الحقيقة دون إضافات، الحقيقة بدمها ودمعها وآهاتها الساكنة وصرخاتها التي تتجاوز المدى.
تجربة مغايرة يتماهى فيها الإنساني بالفني وتجمع من جديد بين المخرج الأسعد الوسلاتي والسيناريست عماد الدين حكيم مع شركة "دي جي برو" في تنفيذ الانتاج ومؤسسة التلفزة التونسية على مستوى الانتاج، بعد أن جمعهم مسلسل "المايسترو" رمضان الفارط.
وبعد ملفّ مراكز الإصلاح، تطرح الدراما قضية الهجرة غير النظامية من زوايا نظر مارقة عن السائد والمألوف من خلال إلقاء الضوء على معاناة المهاجرين غير النظاميين ممن فقدوا في عرض البحر أو ممن نجوا والتحقوا بمراكز الحجز بعد بلوغهم التراب الإيطالي.
هذه الرؤية الدرامية لقضية إنسانية شائكة ومتشعّبة يجسّدها الأسلوب الإخراجي المتفرد للسعد الوسلاتي وأداء لعدد من الممثلين على غرار وجيهة الجندوبي، ورياض حمدي، ومالك بن سعد، ومريم بن حسن، سناء الحبيب وحكيم بومسعودي إلى جانب عائشة بن أحمد، وعبد اللطيف خير الدين، ومحمد حسين قريع، ومهذب الرميلي، وريم حمروني، وأسامة كشكار ونبيل شهاد إَضافة إلى عدد من الممثلين الأجانب.
"الحرقة"، رحلة بدايتها واضحة جلية تستمد معالمها من اليأس من واقع لا يتبدّل ولا يتغيّر والرغبة في ركوب المجهول ولو كان الموت عنوانه على أمل طي صفحة الماضي بما كل ما تؤويه وفتح صفحة جديدة.
مصير يمضي فيه البعض ليغذي بعض الامل الباقي فيهم، طريق إلى الجنة التي يحلمون بها وهو صحو، نقطة ضوء في واقع يكسوه السواد وابتسامة رجاء وسط سيل من الدموع.
لكن نقطة الضوء قد تغدو ثقبا أسود يبتلع الآمال العالقة في مراكب الموت، وتتبعثر الابتسامة في اللج وتخزّن الأمواج المزيد من الحكايات التي ترشح أسى ولوعة وقهرا من الواقع والوجود.
من فاتحة الحلقات، يسير بك مسلسل "حرقة" على سراط الحقيقة، مسارات أرق من الشعرة يقحمك فيها حتى تصبح غير قادر على التحكم في توازنك وأنت تطالع تفاصيل الواقع الذي ردّه إليك في تأويل فني لا يؤمن برسكلة الواقع، ومواقف أحد من السيف تتمزق أمامها الذوات وهي تستحضر دموع الامهات والآباء وأوجاع الحلم المبتور.
وإن تطرقت بعض المسلسلات إلى ظاهرة الهجرة غير النظامية، فإنها لم تجعل منها محور العمل ونواة كل تفاصيله مثلما هو الشأن في "حرقة" الذي يشرّح الظاهرة دون ان يغفل أي من أبعادها.
"حرقة"، صوت عائلات كثيرة فقدت عزيزا في الرحلة نحو المجهول، ووجع من بحث أصواتهم وهو يبحثون عن بديل آخر ولا يجدون غير إغراءات مراكب الموت، وكل الدموع التي أبت أن تغادر المآقي لهول الجثث المنتشرة على الشواطئ.
التناصف حاضر في هذا المسلسل فكما يخاطر الرجال من أجل غد آخر تفعل النساء أيضا، مخاطرة لها من الأسباب ما يتفرق بين الاقتصادي والاجتماعي والنفسي، مخاطرة خاض السيناريو في أدق تفاصيلها وأبرو الأخراج أدق زواياها.
إلى جانب الأسباب المتشابكة والمتشعّبة لم يتوان القائمون على المسلسل عن وضع الحكومات في قفص الاتهام لتورطهم بقصد وعن غير قصد في هذه الملاحم التي لا تنتهي.
وأنت تلاحق المشاهد بشوق إلى الأحداث الموالية، قد تتساءل هل كل مقدم على الحرقة ضحية؟ وهل "الحارق" هو الضحية أم أهله هم الضحايا؟ وهل "الحراق" جلاّد أم منقذ؟، أسئلة تستدر أكثر من جواب ولكنها لا تخفت.
يوميات تونسيين وأفارقة من الجنوب في مركب تصارع المجهول، بعضهم بلغ الضفة الأخرى ولكنه لم يعثر على الجنة وفي المقابل صنع جحيما لذويه، جحيم عنوانه اللوعة والفراق.
قضية الأفارقة لها النصيب من الدراما الاجتماعية التي طرقت أبوابا كثيرة لم تلفت إليها الأنظار سابقا، أوجاعهم ومعاناتهم وعبء العنصرية الذي لا يسقط عن كاهلهم ورحلة بحثهم عن الأمان التي تنتهي في الغالب إلى الموت الذي يأخذ أكثر من تجلّ.
الأمهات العازبات قضية أخرى ألقى عليها المسلسل الضوء ونبش في وجع الام العزباء وإقدامها على المضي في طريق الموت من أجل أن تضمن مستقبلا أفضل لابنها بعيدا عن الوضم والنبذ.
قصص كثيرة لشخصيات تشبهك، كل شخصية منها تحمل بعضا منك، بعضا من املك وخوفك ورغبتك في التخلص من اعبائك وتوقك إلى الحياة، قصص حبّرها السيناريست عماد الدين حكيم بحبر الواقع ونسج ملامحها من زخم الحياة.
حيوات كثيرة جمع بينها حكيم ونظم تفاصيلها على قاعدة المشترك وهو الرحيل إلى الضفة الأخرى حيث الجنّة المنشودة، وأحداث كثيرة جادت بها قريحته التي أوغلت في ملامسة الواقع.
ومن سيناريو يراوح بين التشويق والسلاسة والطرافة، وحوار يستنطق العواطف قبل الألسنة ويبوح بما يعتمر النفوس التي أثقلتها الأوضاع التي لا تبارح مكانها، سخر المخرج الأسعد الوسلاتي كل قبح الواقع ليصنع جماليات تميّزه عن غيره.
زوايا تصوير مختلفة وانتقال بين المشاهد بأسلوب مزاجه من تشويق، هي بعض من ملامح الإخراج في مسلسل "حرقة"، المسلسل الذي يقطع الطريق أمام أمام الملل والركود.
رغم الظلام الذي يكسو كثيرة هي نقاط الضوء في "حرقة"، بداء من السيناريو مرورا بالكاستينغ وصولا إلى الإخراج وأداء الممثلين الذين تماهوا مع الأدوار وبثوا فيها الكثير من الصدق والعفوية حتى بدت واقعية جدّا، والماكياج الذي حول الأفكار إلى حقيقة ملموسة والمونتاج الذي يحاكي التطريز.
عين على الأدوار..
عميق هو اداء الممثلين في "حرقة" وبارع المخرج في غدارة الممثلين وأسناد الادوار لمستحقيها من الممثلين حتى تخال وأنت ترقب أداءهم انك أمام فيلم واقعي لفرط تشبعهم بالشخصيات حتى صارت نابعة من داخلهم.
للحديث عن اداء كل الممثلين في حرقة قد يتطلب الأمر نصوصا كثيرة، ولكن لا يمكن المرور دون الحديث عن بعض الأدوار التي لاقت استحسان المتابعين وأسالت الكثير من التعليقات من ذلك دور "مجيد" الذي أداه الممثل رياض حمدي.
"مجيد" مربي النحل عند الجبل ومربي الحلم في ابنه " خالد"، يختزل وجع الآباء الذين قصم أبناؤهم ظهورهم حينما استجاروا بالموت من واقع لم يلب آمالهم، دور مركّب تراوح فيه الشخصية بين مرحلتين ما قبل "الحرقة" ومابعدها.
أداء مقنع وعفوي وصادق بلا مبالغة ولا تكلف للممصل رياض حمدي الذي بسط إلى المشاهد الشخصية بكل تفاصيلها وانفعالاته وانكساراتها وكأنها نابعة من ذاتها وكأنه عليم بكل أوجاعها.
دور "هالة" الذي ادّته الممثلة عائشة بن احمد لاقى هو الآخر إشادة وإعجابا، دور سخرت فيه نظراتها وإيماءاتها وحركاتها وكل تعابير وجهها وكل تعبيرات ذاتها لتبلّغ قضية الأمهات العازبات.
والمتأمل في أدائها يستشف أنها لم تقدم على الدور إلا بعد جراسة الشخصية من مختلف جوانبها، الامر الذي تكشفه قدرتها على التنقل بين الانفعلات بل انها تجمع التناقضات في ذات المشهد، وهي التي جسّدت بكل نا اوتيت قوة المرأة التي ركبت الموت لينعم ابنها بحياة أفضل في بلد لا يتفنن في جرح ذوات الأطفال المولودين خارج إطار الزواج.
دور الحراق أو "الصاروخ" الذي يؤدّيه الممثل مهذّب الرميلي، أيضا، شدّ إليه الأنظار من خلال تمكنه من مفاصل الشخصية وتجسيدها باتقان عبر توظيف النظرات ونبرة الصوت.
شخصية أخرى يثبت عبرها الرميلي انه ممثل من طينة الكبار لا يغفل التفاصيل ولا يستسهل التمثيل بل يهب الدور كل كله ويتماهى معه حد التوحّد، وكعادته يجيد لعب الأدوار المركبة التي تجمع المتناقضة فـ"الصاروخ" الذي يستمثر في آمال الراغبين في الهجرة ولكنه في ذات الوقت على خلق ولا يفتقر إلى الإنسانية.
ودور عاملة النظافة التي تؤثر ابنها على نفسها وتبحث له عن السبيل التي تنتسله من الواقع الذي تعايشه وإن كانت "حرقة"، أدته وجيهة الجندوبي واهتمت بتفاصيله وكأنه وليدها وجالت بين تناقضاته الكثيرة برشاقة.
كدأبها، متمكنة هي من شخصياتها متشبعة بتفاصيلها وخلفياتها وممعنة في الغوص في ثناياها التي تؤدّي دوما إلى الإقناع والإبهار ومتقلبة بين المتنقضات بسلاسة وعفوية وصدق.
من الادوار الأخرى التي لاقت استحسانا لقدرة الممثلين على تبليغها دون مبالغة أو تكلّف هي دور الامني الذي يؤدّيه الممثل نبيل شهّاد العائد بعد تسعة عشر سنة من الغياب ليرسم ملامح شخصيته بكل اتقان وكأنه لم يغب يوما عن الشاشة، ودور "خميس" الذي يؤدّيه الممثل عبد اللطيف خير الدين العائد أيضا بعد غياب ليثبت أن الممثلين من طينة العظماء لا يمرون على عمل إلا وتركوا فيه بصمتهم التي لا تمحي أبد..
الدور الذي أدّته الممثلة ريم الحمروني شدّ إليه أنظار المشاهدين لقدرتها على تقمص الأدوار بأسلوب تنصهر فيه العفوية والاتقان، دور بثت فيه ريم الحمروني سيلا من الأحاسيس وهي المعروفة بكرمها مع الشخصيات التي تؤدّيها إذ تهب لها كل طاقتها ما ظهر منها وبطن.
وبين ثنايا الشخصية التي تتقلب بين الانفعالات المرتهنة بوضعية ابنها المهاجر إلى ايطاليا، تسافر بالمشاهد بكل صدق من وضعية الأم المتباهية بابنها إلى الأم المتحسرة على سجنه لتجارة المخدرات فالأم المكلومة التي تتقبل عزاء قطعة من روحها.