يسرى الشيخاوي-
في الطريق إلى الفضاء الثقافي "فستيف-آر" بسيدي حسين الجيارة تمرّ على المحكمة الابتدائية تونس 2 حيث تهاطلت دموع أمهات طالبن بإطلاق سراح أبنائهن الموقوفين في الاحتجاجات الأخيرة.
على بعد خطوات منه منطقة الأمن، هذه ملامح الدولة هنا في سيدي حسين وكل الأماكن التي تشبهها في تونس، هامش لا يستدر الاهتمام إلا حينما يغدو صوت المواطن فيه رقما في الانتخابات.
رسائل كثيرة تتبدى في تفاصيل الهذا المشروع الثقافي وفي السبيل المؤدّية إليه، رسائل إلى الدولة وإلى الإنسان وإلى الله، رسائل مخطوطة بحروف هلامية لن يفهمها إلا المؤمن بدور الفن في التغيير.
رسائل إلى الدولة..
والفضاء الثقافي الذي بعث فيه المسرحي ناجي قنواتي الحياة صحبة رفيق المسارات المتشابكة ياسين الفطناسي ليس إلا تعبيرة رفض وتمرد على الواقع الثقافي بالجهة التي تمتد فيها جذوره.
مسار موشّح بالصعوبات سلكه الرفيقان وهما على وعي تام بأن أقدامهم سترتطم بأشواك كثيرة أولها تلك التي ما انفكت الدولة تنثرها في وجه كل مجدّد، لم يستسلما ولم يتردّدا في أن يواجها لا مبالاة الدولة تجاه الأحياء المهمشة.
تصوّر كامل ليصير الهامش مركزا بفعل الثقافة والفن، تصوّر نابع من الإيمان بضرورة المقاومة، مقاومة الرداءة والتفاهة والتهميش والتمييز واليأس والبؤس وكل تجليات الموت البطيء.
وإن كان قدر سيدي حسين، شأنها شأن مناطق أخرى، الظلم والإقصاء والوصم، فإن فضاء "فستيف-آر" سيبث في ثناياها روحا أخرى مدادها الفن والفرح تماما كما يظهر في تسمية الفضاء.
البوصلة، في هذا الفضاء، حق الجميع في الثقافة وحق أبناء الأحياء الشعبية في متنفس يلوذون إليه كلما أوصدت الدولة أبوابها في وجوههم، والسلاح إيمان عميق بأن الفن عموما والمسرح خصوصا التزام بقضايا الإنسان أو لايكون.
رسائل إلى الإنسان..
من بعيد تتراءى لك ألوان الفضاء الثقافي تميزه عن المساكن التي يتوسطها، وأنت تجول بأنظارك في تفاصيل المكان يأسرك صوت يصدح من داخله، صوت عميق في حنو تخال أنه نابع من باطن الأرض، ناعم لكنه منساب يكاد يعانق السماء.
لا تملك إلا أن تتبع صدى صوت الفنانة لبنى نعمان المنبعث دون موسيقى حتى تطالعك نظراتها المفعمة بالكلمات على ركح الفضاء الجديد وتغوص مع تلوينات صوتها الموشّح بموسيقى أنفاسها.
وفي سكون صوتها وصخب تعبيرات وجهها موسيقى تشبه حضورها الصارخ على الركح وتحاكي الفرح المنبعث من داخلها وهي تغني "مازلت خضراء" وتعلن ميلاد الفرح قبل أن يعانق الفنان ياسر جرادي غيتارته ويروي حكاية ليست كغيرها من الحكايات.
"ياسر محبّة"، حكاية ياسر الجرادي بدءا من اسمه الذي اختاره والده المؤمن بالقضية الفلسطينية وعلاقته السطحية بالموسيقى وصولا إلى تلك اللحظة التي صارت فيها الموسيقى أنيسته والغيتارة رفيقته التي لا يستغني عنها.
عن كل التفاصيل الفارقة في حياته، تحدّث جرادي الذي يركن إلى الكلمات والألحان ليخلّد ما يعتمر بصدره وليعبّر عن الحب والفرح والحزن والقهر، بحضور مسرحي لافت وحبكة في النص شدّ إليه الأنظار.
"السكات" أول أغنية كتبها حينما عجر عن ترجمة حنقه أمام مقتل الطفل محمد الدرة على يد الاحتلال الاسرائيلي صدحت كلماتها في الفضاء، وتلتها أغان أخرى منها "أميرة شامية" تلك التي كانت اعترافا بالحب، و"ديما ديما" و"شبيكي نسيتيني".
هي رسائل للإنسان أنى كان وحيث كان، رسائل فيها وجع وحب وفرح، رسائل تنهل من تقلبات الحياة وتلتقي عند التجربة التي تترك الأثر في صاحبها وتبث فيه بعضا من النضج، في الواقع لا علاقة للنضج بالسنين هو ابن التجربة.
رسائل إلى الله..
على نفس الركح القريب من مقاعد الجمهور، يتبدّى الاحتفاء باليوم العالمي للمسرح عبر مسرحية "عقاب جواب" للمخرج محمد علي سعيد، مسرحية يتماهى فيها الفني والإنساني والوجودي وتتشابك فيها علاقة الإنسان بنفسه حتى تصبح مراسلة الله أمرا محتوما.
اقتباسا عن الكاتب الفرنسي ايريك ايمانوال شميث، نسج المخرج تفاصيل نص ملغوم بالترميز، قاطع مع المباشرتية وموغل في مخاطبة العاطفة والعقل على حد سواء، فذ يثير الفوضى في مشاعرك ويدعوك إلى التفكير والتفكّر.
هي فكرة الهرب من الفناء تؤجج الأحداث في المسرحية وتستثير التناقض والتضاد بين تجليات الحياة والموت وتسائل معنى الوجود المهدد بعدم لا حصر له ولانهاية وتعري مكامن الضعف والوهن.
وعلى ايقاع ملاحقة خيوط الامل المبعثرة، يحتل حضو الممثلين ناجي قنواتي وحمودة بن حسين ومريم قبودي الركح وهم يترجمون معاناة مريض نخر السرطان جسده ولكن روحه ظلت تواقة إلى الحياة.
وحينما انعدمت حلول الطب، برقت فكرة مراسلة الله في أفق الفناء، فكرة جريئة تنطوي على بعد صوفي وتعطي معنى جديدا لعلاقة الإنسان بالله، فكرة تثير أسئلة كثيرة عن المغزى من كتابة الرسائل إلى الله، وعن طريقة كتابتها.
قد يبدو الأمر سورياليا للحظة ولكن في الواقع يكتب الجميع رسائل إلى الله، كل بطريقته ولكن ما يعجز الإنساني عن الإفصاح به يفصح به الفني وسط هالة من الجمالية والفلسفة التي تمكنك من النظر إلى أقكارك من زاوية أخرى..
وبين كل الرئاسل التي تتهاطل عليك في "فستيف-آر"، لا خيار لديك إلا الابتسام في وجه تلك الغرادة التي جعلت الصعب ممكنا وزرعت في قلب الخواء الثقافي في منطقة سيدي حسين الجيارة فضاء يعبق بالثقافة والفنون ومتنفسا يهرع إليه الباحثون عن الامل.