“فتوى” في سجن برج العامري.. في معنى أن تتنفّس الحرّية خلف القضبان

 يسرى الشيخاوي- 

في الطريق إلى سجن برج العامري حيث اختتام عروض أيام قرطاج السينمائية في السجون، تختلط المشاعر داخلك وتضطرب روحك لمجرّد تذكر صوت صليل باب السجن ونظرات المساجين التي تعجز الكلمات عن ترجمتها والابتسامات التائهة على قارعة الأسوار العالية.

من مدينة الثقافة إلى سجن برج العامري تغدو فكرة الحرّية وحدة لقيس الزمن، تلازمك هذه الفكرة وتنخر عقلك وعاطفتك وتنثر أمامك كل السيناريوهات المحتملة وغير المحتملة في لقائك بالمساجين.

وإن لم تكن المرة الأولى التي تدخل فيها سجنا وتشارك المودعين مشاهدة فيلم سينمائي وتتقاسم معهم لحظات من الفن والحياة والحرية، فليس من الهين أن تستبطن وجعا صامتا تشي به العيون.

وكلما أكلت الحافلة بعضا من الطريق إلى السجن ودنت منه أكثر يتوتر نبضك وتختلج أنفاسك وتتصارع الأفكار في ذهنك ويسكت كل الكلام امام مشهد امهات يحملن القفاف إلى المودعين.

السجن لا يوجع المودعين فقط بل يوجع عائلاتهم وخاصة أمهاتهم، أمهات يكاد توازنهن يختل وهن يحملن قفافا ثقيلة كثقل أيام السجن ويقطعن الطريق على دمع مرتسم في المآقي ولكنه لا يعانق الخدود.

لا أحد يمكنه تخيّل وجع ام حملت ابنها وهنا على وهن ودثرته بحبها وحنانها لكنه ظل الطريق إلى الجريمة لأسباب متشعبة ومتشابكة للكل يد فيها، لا احد يمكنه ان يترجم ملامحك المثقلة بالحزن، لا شيء يمكن أن يخفف وجعها إلا حرّية ابنها.

فيما تلاحق خطى العائلات المحمّلة بقفاف بألوان الحياة، تتوه انظارك في تفاصيل البناية البيضاء ذات الحيطان العالية وتتامل الأسيجة والأسلاك الشائكة وتجول برأسك بين أعوان السجون والإصلاح الذي يكسرون السكون الصاخب بوقع خطواتهم.

وأنت تبعثر نظراتك في محيط السجن، يتسلّل إليك صليل باب حديدي لا فتحات فيه، تتأمّل تفاصيله وتغرق فيها حتّى يُخيّل إليك أن الهواء انقطع من حولك، تشعر بأن صدرك ضيق ولكن لا تلبث ان تبتسم حينما تقع عيناك على رسم يحاكي الفراشة على الحائط.

"أثر الفراشة لا يرى.. أثر الفراشة لا يزول" تستحضر هذه العبارات وأنت مؤمن بأن أثر تجربة أيام قرطاج السينمائية في السجون لا يزول، تجربة إنسانية ووجودية وفلسفية مارقة عن التصنيفات.

هذه التجربة التي تنظم بالشركة بين المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب والإدارة العامة للسجون والإصلاح وإدارة أيام قرطاج السبنمائية،فرصة الصحفيين لاكتشاف وجه آخر للمودعين، بعيدا عن التقييمات والأحكام.

وهي أيضا فسحة للمودعات والمودعين ومتنفسا يكسرون به رتابة السجن إذ وقعت اعينهم على وجوه جديدة بادلوها النظرات والابتسامات من وراء الكمامات واجتمعوا معهم في ذات المكان وفي ذات الزمان خارج أسوار السجن أمام شاشة تسلّلت منها في جينيريك النهاية موسيقى للفنان ظافر يوسف، موسيقى تدعو إلى الحياة وإن كان يغشاها بعض الشجن.

هو جينيريك نهاية فيلم "فتوى" للمخرج محمود بن محمود، الفيلم الذي يعيد إلى الذاكرة فترة من تاريخ تونس الحديث صبغتها دماء الإغتيالات السياسية وهمجية المتطرفين الذين علقوا بالزوايا والاضرحة ناهيك عن تسفير الشباب التونسي إلى سوريا تحت كذبة الجهاد.

وفي الوقت الذي تستقبل فيه الوحدات السجنية التونسية إرهابيين ومتطرّفين وسط حديث عن مخاطر استقطاب بقية المودعين إلى الفكر المتطرّف، تبدو فكرة عرض الفيلم ذات جدوى خاصة وأن الجمهور تفاعل مع تفاصيله وطرح العديد من الأسئلة من زوايا مختلفة.

والنقاشات التي خاضها المودعون بعد الفيلم تنم عن وعي وعن حس مرهف ولعل كلمات احد المودعين أبلغ من خطب كل السياسيين الفضافضة إذ يقول إنه وإن انتصر الارهاب في نهاية الفيلم فإن تونس ستنتصر دائما وأبدا في الواقع.

وبعض المودعين اغتنموا النقاش ليعربوا عن سعادتهم ببرمجة عروض أفلام في سجن برج العامري بما يمثّله ذلك من فسحة حريّة ينسون فيها ضيق المكان الذين يقبعون فيه.

ورغم الأسوار العالية التي تسلب الحرّية سليا، أوجد المساجين طرقا أخرى لتخطي العقولة السالبة للحرّية وارتموا في حضن الفنون لعلها تخفف عنهم وطأة السجن وحكّت أناملهم لوحات فسيفساء تسر الأنظار.

في ورشة فسيفساء تشرف عليها المنشطة التابعة لوزارة الثقافة سندس البجاوي، بثوا هواجسهم أفكارهم واستجاروا بقطع الفسيفساء من الضيق والوحدة والشوق إلى الخارج حيث الحرّية والاحبة.

داخل ورشة السينما يخطون كلمات وينسجون منها ملامح سيناريوهات يقول احد المودعين المحكومين بعشرين سنة سجن إنه وجد فيها الملاذ وأعطته دفعا آخر للحياة ومنحته الحرّية التي أضاعها.

من الفسيفساء إلى السينما فالخياطة والحدادة وصناعة الحلي، يهرب المساجين إلى الفنون والحرف ويخلقون لأنفسهم فسحات الخيال والحلم يعانقون عبرها الحرية ويسافرون خارج أسوار السجن

وفي كل تفاصيل اختتام أيام قرطاج السينمائية في السجون تفقه معنى ان تتنفس الحرية من خلف القضبان، فالسجن ليس فقط تلك الأسوار العالية التي تشيّدها الدولة وغنما ايضا كل تلك الاطر والأفكار والقواعد التي يلزموننا بها ويدكوننا فيها دكا دون أن يفكروا في استشارتنا.

السجن أيضا ان تحترم البروتوكول وأن ترضى بالجلوس في الكراسي الأمامية فيما يجلس المودعون في الخلف، وأصل الحال أن أيام قرطاج في السجون احتفاليتهم التي ينتظرونها ليتخلصوا من كل الوصوم.

طيلة الفيلم يتواصل السجن داخل البروتوكول إلى أن تؤذن موسيقى ظافر يوسف بنهاية العرض، ويتسلل صوت أمان الله الأسود عن المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب وهو يطلب منا ان نغير اتجاه جلوسنا لنصبح وجها لوجه مع المساجين.

ومع تغيير اتجاه الكراسي تشعر بانك تحررت من السجن المفروض عليك وتنطلق رحلة التوهان في تفاصيل السجناء الذين غابت أجزاء من وجوههم بفعل الكمامات لكن تكدّس الحديث في أعينهم.

 

 

 

 

 

  

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.