“200 متر”.. مدى فلسطيني يموت فيه الوجع على أعتاب الأمل

 يسرى الشيخاوي- 

أضواء بألوان الحياة وابتسامات تروي حكايات كثيرة وسيل من الامل يخترق الجدار الفاصل بين عائلة، الأب في ضفة والأبناء وأمهم في ضفة اخرى المسافة الفاصلة بينهم 200 متر ولكن العناق لا يكون إلا بعد ملحمة.

نور ملّون يرسم به الأب الفرح على ملامح أبنائه الواقفين في الشرفة يتخاطبون عبر خيوط الضوء يكسرون بها عتمة الجدار العازل الذي يقف عائقا أمام اجتماعهم في بيت واحد، مشهد يختزل المدى الفلسطيني الذي يموت فيه الوجع على أعتاب الأمل.

فرغم البين والشوق إلى لمسات وانفاس دافئة توجد العائلة سبيلا لتظل ملتحمة رغم الحاجز الذي فرضه الاحتلال الذي زرع الوجع في حياة الفلسطينيين، وجع صوره فيلم 200 متر للمخرج الفلسطيني أمين نايفة من زاوية اخرى.

من زاوية إنسانية موشّحة بالعاطفة، يعرض الفيلم القضية الفلسطينية دون السقوط في المباشراتية ودون مشاهد قصف ودمار وخراب وبيوت مهدومة لكنه يصور النفوس والذوات الموجوعة.

طيلة الفيلم، لا يتناهى إلى مسمعك صوت القذائف ولا تقع عيناك على دخان الصواريخ ولكن  تنقل لك عيون الممثلين وابتساماتهم التي تحاكي دمعا ظل الطريق إلى المآقي معاناة تعجز الكلمات عن وصفها. 

في أحداث الفيلم تلاحق الكاميرا تفاصيل يومي فلسطينيين لم يستوعبوا فكرة قيام ذلك الجدار الذي يحول بينهم وبين أقاربهم، هي نفس التفاصيل التي عايشها مخرج الفيلم امين نايفة واستبطن وجعه وحوّله إلى عمل فني تماهى فيه الذاتي بالموضوعي واختلطت فيه المشاعر.

ومن حكاية أسرة فلسطينية فرّقها الجدار، خطّ معالم فيلم بدت فيه السينما سلاحا ناعما تتبدى فيه المواقف السياسية وترتسم فيه الملاحم التي يخوضها الفلسطينيون من أجل أشياء قد تبدو للبعض بسيطة.

مسافة 200 متر تفصل بين القريتين حيث يسكن الزوج مصطفى ( علي سليمان) ووالدته من الجهة الفلسطينية والزوجة سلوى ( لانا زريق) وأبناؤهم مجد ومريم ونورا (توفيق ومريم وسلمى نايفة)من الجهة "الإسرائيلية"، مدى صغير لكنه يبدو بلا نهاية حينما يواجه الزوجان مشكلا بدخول ابنهما إلى المستشفى في الوقت الذي ينتهي فيه تصريح الأب.

تفاصيل كثيرة ينثرها المخرج طيلة الفيلم يرجّ بها إحساسك ويحمل إليك معاناة الفلسطينيين دون اللجوء إلى مفاهيم عصية على الاستيعاب ولا أطروحات ايديولوجية لم تبارح مكانها.

سرد للواقع يوظّف فيه المخرج صورا ومشاهدا موغلة في الأحاسيس إذ ترصد كاميراه الإيماءات والنظرات والابتسامات التي تغالب الوجع وتلاحق الحكايات التي يحكيها الصمت.

ومع انتهاء تصريح الأب ينساب السرد أكثر فأكثر وتتهادى البنية الدرامية على إيقاع تشويق فرضه لجوؤه إلى شبكات التهريب ليزور ابنه في المستشفى بعد ان ضاقت به السبل.

في رحلة تهريبه إلى الجهة الاخرى من الجدار، تتراءى للمشاهد احلام شباب يستللون خلسة إلى الجانب الآخر يحلمون بإيجاد عمل أو يمنون النفس برؤية أقاربهم أو أي شيء آخر، تختلف الأماني وتلتقي عند الخيبات والانكسار ولكن يظل الأمل صامدا يقارع ذلك الجدار العازل.

هو الواقع الفلسطيني نقله أمين نايفة دون زينة، قد يبدو للبعض مكسوا بالمبالغة ولكن وحدهم الفلسطينيون الذين ارتطمت احلامهم بذلك الجدار يعلمون حقيقة المعاناة وقسوته، جدار يفضل بين المرء وذويه حتى أنه حال دون المخرج ووداع جدّه الاخير.

من ثنايا الفيلم تعبق الذاتية، ومن قصته وقصة عائلته التي فرقها جدار الاحتلال نظم السيناريو الذي كان محبوكا بتفاصيل تأسر الوجدان قبل العين وتصور لك الوجع دون دوع والعنف دون دم وخراب والانكسار دون استسلام.

وإن كان هاجس المخرج رواية معاناة الفلسطينيين من زاوية إنسانية دون مفاهيم عصية على الاستيعاب ولا نقاشات ايديولوجية لم تبارح مكانها فإن بعض المشاهد تناولت بعض القضايا تلميحا من ذلك التطرّق إلى صفقة القرن في مشهد يصغي فيه "مصطفى" إلى الأخبار.

وعبر الإمعان في ملاحقة التفاصيل، يعرض الفيلم صورا ومشاهد مؤثرة تخترق القلوب وتحاكي إنسانية المشاهد الذي لن يتمنّى ان يكون مكان شخص تفصله 200 متر عن زوجته وأبنائه ولكن جدارا وقضية يفصلان بينهم.

في الفيلم يتظافر السيناريو والإخراج واداء الممثلين لخلق واقعية شاعرية يغرق فيها 200 متر فتتحوّل المسافة التي احتلها الوجع إلى مدى يبعث فيه الامل كل يوم حيا من جديد وتزين فيه أنفاس الثابتين على مبادئهم وجه المقاومة ويحب فيه الفلسطينيون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا  

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.