يسرى الشيخاوي-
إنسان يتحوّل إلى لوحة، ويغدو ظهره محملا يخط عليه فنان وشما به رموز مختلفة عنوانها "التأشيرة" باللغة الانجليزية، "شيء" مفرغ من الروح والحرية يزين المتاحف والمعارض ومزادات بيع اللوحات.
سوري أنهكته الحرب وضاقت روحه بتمظهراتها الموجعة فلجأ إلى لبنان وترك وراءه عائلة وذكريات وحبيبة تقاوم الخوف من الموت تحت القصف وغيابه لكن المقاومة لم تدم إذ رضخت لعرض زواج من سوري مقيم ببلجيكيا.
وبين مرارة الغربة ووجع فقدان حبيبته يتأرجح "سام علي" (الممثل يحي مهايني) ويحاول أن يوجد سبيلا للالتحاق بحبيبته وانتشالها من السجن الذي فرضته عليها الحرب وغيابه حتى يلتقي بفنان مشهور جعل من المستحيل ممكنا.
وفي زمن قصير يحاكي الحلم صارت التأشيرة إلى بلجيكيا بين يدي "سام"، ولكن مالمقابل؟، ظهره محملا لعمل فني معاصر يطرح فيه صاحبه قضية الهجرة واللجوء من منظوره.
في البدء تاه في دوامة من التفكير ولكن البين قلب كل الموازين وسكت العقل لتتكلم العاطفة وينتهي إلى بيع ظهره ويسافر ويعانق البذخ والرفاهية وفي المقابل يسجن نفسه وذاته وروحه في ظهره الذي صار مزارا لعشاق الفن المعاصر.
في حضرة ظهره تنتفي كينونته وتتلاشى ملامح وجهه ويُنسى كأنه لم يكن، وتضيق حريته حتى تصير سرابا يتبدّى له فتصدمه الحقيقة إذ حاول اللحاق به ومغادرة تلك الشرنقة التي تؤوي ظهره في المتاحف.
مع ضياع الحرية وتوهان الروح يسود التوتر العلاقة مع حبيته الت التقاها بعد هجر ولكن اللقاء لم يكن كما تخيّله ذات جولة بين لوحات المتاحف، جولة خاطفة تحرر فيها من سجنه وتحصّن بخياله ليظفر بقبلة من حبيبته.
وهي تشرّح البنى البسكودرامية للشخصيات، تجول الكاميرا في فضاءات مغلقة وتلاحق التفاصيل لتعرّي بعض القضايا من زاوية ارتأت المخرجة كوثر بن هنية ان تجمع فيه بين موضوعي اللجوء والفن المعاصر.
من خلال هذين الموضوعين لامست مسائل أخرى على غرار جدلية التجاري والفني وتشييء الإنسان وتعامل البلدان المضيفة مع اللاجئين والبراغماتية والانتهازية والاستثمار في مأساة الآخرين.
واللوحة الفنية الحية التي نحتها الفنان "جيفري غودفروي" على ظهر سام اقتباس عن تلك التي نقشها الفنان البلجيكي "فيم ديلفويَ" على ظهر "تيم شتاينر"، ليقتنيها تاجر الأعمال الفنية "ريك رينكنغ".
ولعل السوريالي في الأمر أن هذه اللوحات الحية تظل على ملك أصحابها وحينما تموت الأجساد الحاملة لها تسلخ ويحتفظ بها، وهو التفصيل الذي زاد من انسيابية التشويق في الفيلم فكيف السبيل إلى الاحتفاظ باللوحة وسط تمرّد "سام علي" الذي ضاق ذرعا بالسجن الذي فرضه على نفسه؟
ومنذ إمضائه على عقد العبودية التي يرسّخها الفن المعاصر في تناقض مع جوهرالفنون بما هي تعبيرات عن الحرية والتحرر، تتفرع ثنايا السرد وينساب السيناريو بهدوء يتراكم ليتحوّل إلى انفعال عارم يرسم "سام علي ملامحه في قاعة العرض حينما يتقاذف المضاربون ظهره.
في قمة الغضب يغادر شرنقته ويدير وجهه إلى الحضور ومن بين جنبات بنطاله يسحب سماعتين بدت كأسلاك حزام ناسف ويحرر الغضب الساكن داخله بصرخة انفض بها الكل من حوله فيما كاميرا المخرجة توهم المتفرّج بعملية تفجير لم تكن سوى رأس فتيل الحرية.
في الأثناء يواجه "سام" تهما كيّفها محاميه مع العنصرية المسلطة على اللاجئين ليوجد له ثغرة تحرره من سجن آخر فيما يخطط "سام" للعودة إلى الرقة والتخلص من أثر الرق على جسده.
في أغلب المواقف التي يعايشها كلوحة فنية كانت " سريا" (الممثلة مونيكا بلوتشي) حاضرة إلى جانبه وكانت حائلا دون هروبه من الأسر الفني وهي التي بكته حينما اخترقت رصاصة الحياة رأسه.
مثلما ورّه في عقد العبودية، حرر الفنان لوحته الحية من سجنها بطريقة زادت من التشويق الذي يرافق كل الأحداث وديناميكية السيناريو الذي يسد كل المنافذ أمام الملل، ديناميكية تولّد الصدمات وتشدّك إلى الفيلم الذي تتمنى ألّا تنتهي دقائقه التي تتجاوز المائة.
الفيلم لا يخلو أيضا من الإثارة وسرده محبوك ومنساب بسلالة تحتم عليك ألا تطبق جفونك خشية أن تضيع منك بعض التفاصيل، ففيه يتماهى الإنساني بالوجودي والفني وتتقاطع في تفاصيله قضايا كثيرة تلتقي عند حرية الإنسان وكرامته.
والبناء الدرامي يمضي وفق خط لولبي توشّحه المفاجآت، والزمن الدرامي تحرر من الساعات والدقائق والثواني وتطرّز برحلة البحث عن الحرّية وعن الذات في رواية أجادت المخرجة كوثر بن هنية اختيار الممثلين.
فالأداء كان سلسلا مقنعا ودون مبالغة، وقد جسّد الممثل يحي مهايني شخصية "سام علي" بعمق وبساطة حتّى انك تخال لوهلة ان الفيلم وثائقي تسجيلي يرصد حركاته وسكناته في الواقع.
وفي حضور النجمة الإيطالية مونيكا بلوتشي متعة إضافية تنضاف إلى حبكة السيناريو والرؤية الإخراجية والديكور وأماكن التصوير وبرهان على أن الفيلم ذو طرح مقنع كان سببا في المشاركة الاولى لبلوتشي في عمل سينمائي عربي.
ورغم الوجع الذي يرشح من كل الثنايا ودمار الحرب الذي يلاحق " سام" ووضعيات المهاجرين الذين يضطرون لتنازلات كثيرة ليتقوا الموت تحت القصف، كانت نهاية الفيلم حمّالة امل ولم يعد جسد "سام" في مأزق وانتصر والحب.