“عندما أهمس في أذن حصاني”.. وثائقي مداده الإنسانية

يسرى الشيخاوي- 
 
فارس يرفع قبعته ويغادر المضمار بعد أن همس في أذن حصانه الذي تعثر بالحاجز "لا عليك .. إني أشعر بألمك"، فارس ينسحب من سباق الخيول وهو يربت على ناصية حصانه.
 
ليس من السهل على الفارس ان ينسحب في فاتحة السباق، ولكن الأصعب أن يواصل السباق وحصانه يئن تحت جسده فتسري فيه ذبذبات الوجع كأنها الصاعقة وتهتز أوصاله وتضطرب أنفاسه.
 
بعيدا عن منطق الربح والخسارة، هو رابط مقدس يمتد بين الفارس وحصانه، حتى يتوحّدا وتتماهى أنفاسهما وتصير تعبيراتهما واحدة، هي تلك العلاقة المارقة عن التصنيفات وغير الخاضعة للتفسيرات، يصورها الفيلم الوثائقي "عندما أهمس في حياتي" للمخرج بلال المازني.
 
الفيلم يروي حكاية رؤوف شاب تونسي يهوى الخيول منذ الصغر، لتتالى سنوات العمر ويكبرمعها هذا العشق حتى أنه مر الى مرحلة أخرى ترتسم فيها الإنسانية في أسمى تجلياتها.
 
من فرط حبه للخيول، لا يهتم فقط بالسليمة منها القادرة على خوض السباقات، بل إنه يبحث عن تلك الخيول المصابة ويضمد جراحها ويواسي روحها حتى تعانق الميدان من جديد.
 
على دفتر عشقه للخيول، يصادف حصانا مصابا عند العثور عليه لم يكن أمل يرجى من تعافيه ولكن يبدو ان القدر نفخ في روحه مزيدا من الحياة ليلتقي "رؤوف"، الحصان المصاب اسمه "غوزمانيا"، غازلته أعينه في ناد لتربية الخيول، وتاه الفارس في تفاصيل الجراح التي تغزو جسده وكأنها تدعوه الى الغوص فيها أكثر.
 
جسده موشح بالجراح التي خلفتها الأسلاك الشائكة لثكنة عسكرية هرب إليها لما أطاح راكبته عن ظهره وأدمته ومازال بعضها مفتوح، ولكنه ظلّ يقاوم رغم الوهن البادي عليه والذي لاحظه "رؤوف" من الوهلة الاولى.
 
"غوزمانيا" لم يكن الحصان الوحيد الذي لمحه في ذلك اليوم حينما استبدت به رغبة في شراء واحد جديد يستنطق معه انسانيته كما المرات السابقة، ولكن شيئا ما شده إليه، هي تلك النظارات التي تفيض حديثا.
 
بعد حديث مع احصنة اخرى، يعود إليه ليلبي نداء نظراته، ومنذ تلك اللحظة ينسج الثنائي ملامح حكاية مدادها الانسانية يفهم فيها الانسان وجع الحيوان ويرمي الحيوان بأثقاله على كتف الانسان وينشئان لغة خطاب لا يفهمها إلاهما.
 
كان البدء بتضميد ما تبقى من جراحه المفتوحة بحنو وعطف، وتنظيفه والعناية به، ومع كل عناق يعاهد "رؤوف" نفسه على أن يتعافى "غوزمانيا"  تماما ويفوز في سباق الخيول.
 
لما تلاحق تفاصيل العلاقة بين الفارس وحصانه، يبدو لك وكأنهما روح واحدة انشطرت في جسدين، يتدانيان ويتعانقان ويبوحان لبعضهما دون حديث ويستجيران بالأنفاس والنظرات من الكلمات.
 
قنّاص هو المخرج يجيد توجيه الكاميرا نحو التفاصيل التي تستثير عاطفتك وإحساسك وتخاطب الإنسان داخلك كأن يتبدّى لك جرح " غوزمانيا’ مفتوحا فيتسرّب إليك أمله الذي يرتسم في ألق أعينه ولكنّه يتلاشى شيئا فشيئا مع لمسات " رؤوف" وهو يمرر عليه المرهم والعسل.
 
صادقة هي الكاميرا التي تجعلك تستشعر شهيق الفارس وحصانه وزفيرهما إذ هما تعانقا، ومفعمة بالأحاسيس تلك العين التي تصوّر نظراتهما وهي تغازل خيوط الشمس في الميدان.
 
لحظات شاعرية، يوثّقها المخرج دون تعقيد في كل لقاء والتقاء بين " رؤوف" و"غوزمانيا"، حالة من الوجد والانصهار غير قابلة للتفسير وقد تمضي عمرا في سبر معانيها وأسرارها.
 
وتفاصيل التحضير لما قبل السباق الموعود كانت هي الأخرى مطرّزة بالحب، وفيها تجلّى حنوّ الفارس على حصانه تراه يمرر يده على عرفها وناصيتها كأنما يداعب وجه حبيب، وبين اللمسة والأخرى كانا يتهامسان بكلمات يفهمانها ولا يفهمها المحيطون بهم ولكنهم يستشعرون الوله بين طياتها.
 
ولحظات اللحمة بينهما يوم السباق عصيّة على الترجمة أو التأويل، زادتها الموسيقى المصاحبة عمقا وشجنا خاصة حينما قرر الفارس الانسحاب كي لا يزيد ألم حصانه الذي تعثّر بأوّل حاجز لتيعزز العشق بينهما وترتسم في اعينهم ابتسامة رضا رغم " مرارة" الانسحاب من الحلبة قبل الآوان.
 
من بدايته إلى نهايته، يحلّق بك وثائقي "عندما أهمس في أذن حصاني" الذي عرض على الجزيرة وثائقية على أجنحة مشاعر فياضة أججتها شاعرية الطرح ورهافة الموسيقى وعمق الصورة.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.