يسرى الشيخاوي-
يحدث أن تستبد بك رغبة في الوقوف على حافة طريق تسلكه، لاشيء منطقي يدعوك للوقوف وأشياء منطقية كثيرة تدعوك إلى مواصلة السير ولكنّك تقف، تفترش الثرى وترسم على وجه التراب خطوطا لا يفقه معناها إلا أنت.
وقفة خارج سياق الزمان والمكان تدخّن فيها الخيبة والخذلان ووتترشف فيها أحلامك على مهل، وبين الشهيق والزفير تتسلل إليك صور مبعثرة من الماضي والحاضر وقد تقفز امامك صور بلا ملامح من المستقبل تنبؤك بأنّك لا تسير في تلك الوجهة التي تكون فيها أنت أنت.
صرخات كثيرة تتزاحم لتعانق الأثير ولكنها تتعثر ببعضها البعض عند أعلى البلعوم وتختنق، وتموت وحينما يعلو صدى الصمت ترثى العبرات الصرخات ويحدث ان تمسك العين دمعها فيفيض القلم حبرا، وتنهمر سيول "فرح يختفي في المرآة"، سيول يخلقها الشاعر رضوان العجرودي على شفا أخاديد الحياة.
وما إن تقع عيناك على عنوان الديوان الأول لشاعر يسلك طريقا يبدأ منه وينتهي إليه، تستحضر الفرح الذي أورده غير معرّف وكأنه يحرره من قيود قد تفقده معناه، ولكن جديث مع المرآة كفيل بأن يخفي فرحا ليحل محله حنين وشجن ولوم وألم ومشاعر أخرى تتراقص على إيقاع الذكريات.
عن حياته، عن طفولته وشبابه، وهواجسه وتساؤلاته التي لا تنتهي، يكتب رضوان العجرودي ويصيّر تجاربه الذاتية إلى تجارب موضوعية تتشابك فيها حكاياته مع حكايات الآخر حتّى يتلبّس عليك الأمر فلا تميّز بين "الأنا"، و"الآخر" في شعره.
هو شاعر ينظر إلى نفسه من خارجها وينظر إلى الآخر من داخله، ويروي حكاياته وحكايات من تاهت حروفهم ولم يجمّعوا تفاصيل حياتهم أو من تسرب الصدأ إلى كلماتهم قبل أن ترى النور.
في كلماته فصول من الحياة عناوينها الأم والإخوى والرفاق والأصدقاء والحبيبات والمشغلون والإنسان عموما بكل ما يؤويه من تناقضات، وفيها بوح واعترافات وهواجس وضحكات مكتومة وعبرات مخنوقة وتمرّد وتوق لتغيير الوجهة.
"تزوجيني أيتها الحياة// ولو ليلة واحدة// حتى أشعر بالحب مرة قبل النهاية"، تعبيرات من نص بعنوان "فرح يختفي في المرآة" الذي اصطفاه العجرودي عنوانا لديوانه الأول، تعبيرات تختزل علاقة الإنسان بالحياة بكل ما فيها من تقلبات وانفعالات وتختصر كل حاجته إلى الحب.
أحاسيس متوهّجة وأفكار مارقة عن المألوف يخط بها الشاعر كلماته ليلامس ألم الآخرين ويحوّل صمتهم الموجع إلى صخب يمتص بعضا من الوجع، وإن كانت الكلمات مرآته ففيها انعكاس لبياض اسنانه ان ابتسم.
والولادة كانت فاتحة الديوان الشعري بنص " حكاية لا تعرفها أمي"، وفي النص إحالات كثيرة إلى الحياة وإلى الوجع وإلى المفارقات الكثيرة التي تصادفك كثيرا تهزّك في البدايات ولكن تألفها فيما بعد وتشتاقها إن ظلت طريقها إليك.
من ذلك الفعل المقدّس الذي ينصهر في الأمل والوجع ويتعانق فيه الموت والحياة على عتبة انتظار صرخة تعلن ميلاد حياة جديدة بتلوينات أخرى، استلهم حكايته ليخاطب عاطفتك وهو الذي خبر معنى المخاض في تجربته الشعرية الأولى.
وكما الولادة، تتداخل مشاعرك وأنت تقرأ كلماته وتتراقص أحاسيسك على إيقاع الانتقال إلى النص الموالي، ويحدث أن تبتسم وأنت تكتم عبرة وانت تلاحق صرخات الإنسان من بين ثنايا الكلمات.
ومع كل معزوفة بكاء تولد حكاية جديدة ويبتسم الشاعر وتظل الولادة خزّان مفارقات، ومن لحظة الولادة تتفرع فصول كثيرة في الحياة ويتقاطع الإنسان مع أخرين يحمل عن بعضهم ذكريات يركن إليها ساعة الحنين وأخرى يحبسها في ركن قصي من ذاكرته كي لا يصطدم بها.
في كلماته، ينطق باسم أولائك الذين يهربون إلى الله كلما ضاقت بهم الأرض يرفعون عيونهم إلى السماء وينثرون أحلامهم على قارعتها، يبحثون عن امتداد الله فيهم، في الألوان والمذاقات الحلوة والروائح العطرة.
حكايات كثيرة يوشّح بها قصائده، حكايات عن الحياة وتقلباتها، عن الركض وراء احلام أضاعتها الحياة وشاركت في ضياعها، عن البكاء والنحيب والعويل، عن الوحدة والبرد رغم أنفاس المحيطين بك، عن الإخوة عن امتدادهم في الماء والاسفنجات، عن الطوفان الذي يدمّر الذوات وعن النضالات زمن القمع وعن البطولات التي صار بعضها سورياليا.
عن تطاوين مدينته، وضحكاته الأولى وحمقاته ودمعاته، عن تعبيرات جمالية متحررة من القوالب الجاهزة، عن العلكة واستعمالاتها المارقة عن المألوف، عن ملله من الذكورة وعن حبيات الظل، وعن الحروب وألعابها يواصل الكتابة عن نفسه وعن الآخرين.
"هاتف إلى الله، وشاية بالطقولة، النوم تحت قمر تطاوين، حبيبات الظل، كيف تصبح شرطيا، الطوفان، لعبة العميان، حكاية لا تعرفها أمي،" بعض من عناوين النصوص الشعريةالتي يغرق فيها خالقها في الترميز ويتعفف من الواقعية، يتقمص كل الضمائر ويصير بطلا لكل الحكايات حتى أنه يجعل منك بطلا لها عندما يبلغ السرد ذروته.
حديث الشاعر..
رحلة تنطلق من الولادة إلى الطفولة فالشباب، رحلة ملؤها التقلّبات أتحدّث فيها عني وعن إخوتي وأصدقائي والمحيطين بي وحبيباتي ورفاقي والمشغلين الذين أكلوا عرقي، رحلة أروي فيها تفاصيل عن فترات الانتفاضات والحروب"، هكذا تحدّث رضوان العجرودي عن دوانه الأول " فرح يختفي في المرآة".
"وأنت تعد فطورك فكر بغيرك … وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيركَ"، يستحضر الشاعر كلمات لمحمود درويش ليقول إن الشعر ليس له، ليس لمن يكتبه وإنما إضاءات لمن لم يكتب ومن لم يشعر أحد بما يعتمر نفسه.
في حالات الحروب تصبح الحرب لعبة للأطفال، وفي السابق لا تهتم الأم لولادتها رغم الآلام وكل همها أن تواصل الاهتمام بمن حولها على نفس الوتيرة، والإخوة كما الاسفنج تختلف السوائل التي يمتصونها بعضهم يمتص دما وبعضهم يمتص ماء، يعبر من بعض ثنايا نصوصه الشعرية التي يكتب فيها عنه وعن الآخر، وفق قوله.
وعن تحرر نصه من القيود، يشيرمحدّثنا إلى أنّه غير منظمّ شعريا ولكنه راكم تجربة جعلته يرسم لنفسه طريقا مغايرا،وإن كان وجد نفسه في حركة نص الشعرية عند حلوله بنابل وفيها شباب يكتبون قصيدة التفعيلة والنثر قبل أن ينشأ بينهم خلافات أدبية.
واليوم، هو أقرب إلى النثر يكتبه من وجهة نظر مسرحية وسينمائية ففي نظره النثر لم يعد كافيا رغم ما تتيحه القصيدة النثرية من سلاسة وراحة في أسلوبها ولكنها تظل حمّالة حدود بحث عن كسرها وتجاوزها.
وعبر القصيدة البيضاء التي تحتمل الفصحى والعامية، حاول أن يتجاوز بخلق الصور وحاول تفجيرها من داخلها، وفق حديثه عن ديوانه الأول الذي يعتبره صرخته الأولى بكل ماقد يحويه من أخطائه اللغوية والتركيبية.
وهو إن يلبس رداء التواضع فإنه أيضا يضع تجبرته الشعرية في سياقها ليحدد النقطة التي يقف عندها وطريقة تعامله مع النص ويكون ذلك منطلقا لتطوير تجربته الشعرية التي ولدت موشّحة بالجمالية والشاعرية، تجربة يخلق فيها قصائد بيضاء ينير بها مسارات دهماء.