41
يسرى الشيخاوي-
"لآخر نفس" يلاحق "فارس" حقيقة الكوابيس التي تقض مضجعه، كوابيس تهز استقراره وتلقي به في دوامة من الحيرة ولكنه يغادر الحياة والغموض يسكن ثنايا قلبه وعقله ويقطع الطريق على إجابة وحيدة كانت تسكت كل الأصوات داخله.
"فارس"(بسّام الحمراوي) يغادر الحياة على إيقاع كذبة كبرى وذنب لم يقترفه، بعد أن أمضى عمرا في البحث عن أسئلة كثيرة تنخر عقله كلما أطلت عليه امه في ثنايا احلام موجعة مربكة، تصرخ وتعرض عنه، تدير وجهها في غضب، تتخبط لتنشد الخلاص.
هو الطبيب الذي ما انفك يهرب من فكرة الذهاب إلى طبيب نفسي لأن صوتا داخله يخبره ان الأمر يتعدى مجرد التهيؤات والهلاوس، بل هو أعمق بكثير هو رسالة أمه من عالمها، رسالة رحل ولم يتمكّن من فكّ شيفراتها.
من تفاصيل رحلة البحث عن حقيقة المنامات المزعجة، تشكّلت ملامح فيلم "لآخر نفس" للمخرج محمد خليل البحري ، فيلم مستوحى من قصة حقيقة تبدو فكرته جديدة وطريفة ولا يخلو من تشويق، في تفاصيله بعض من الرعب وبعض من الدراما والكوميديا ومسحة بوليسية.
وان كانت فكرة الفيلم متفردة فإن السيناريو يفتقر إلى الحبكة في بعض المواضع كما أن نسق الأحداث اتسم ببطئ مس من البناء الدرامي للفيلم، قد يعلل البعض الأمر برؤية فنية للمخرح وأسلوب مغاير ولكن ذلك لا ينفي أنه كان بالإمكان تطريز الأحداث بطريقة تسدّ كل التجاويف والفراغات.
والمتأمل في بعض المشاهد، سيلاحظ رعشة وهزات في اللقطات واعتماد اسلوب المراوحة بين الاتجاهات بطريقة تبدو شبيهة بتقنيات التنويم المغناطيسي، وإن كان في الأمر إحالة على نقظة الذروة الدرامية في الفيلم إلا أنّها قد تبدو مزعجة في بعض الأحيان وإن يصنفها البعض في خانة التقنيات الجديدة.
فيما يخص الإضاءة أيضا وتصحيح الألوان كان بالأمكان اعتماد إضاءة خافتة والتحكم في درجاتها بشكل يخدم الفكرة دون المغالاة، وإن كان المراد من الأمر عكس البناء السيكولوجي للشخصيات وخدمة جانب التشويق والتخويف في بعض الأحداث.
ولخدمة التشويق اكثر، تتخفّى ملامح السيناريو وتبدو بعض المشاهد غير مترابطة، ربّما هو خيار من المخرج ولكنه أيضا امتداد لسيناريو كتبه منذ سنوات وشاركه في الكتابة أمين ليلي.
بعيدا عن الإخراج والإضاءة وإعادة كتابة السيناريو عبر الكاميرا التي قد تختلف حولها التقديرات والملاحظات وإن كان في الأمر بعض المحدّدات التي يمكن من خلالها قراءة عمل سينمائي ما، يطرح الفيلم في بعض جوانبه الصراع بين الحدس واليقين وبين الواقع والخيال وبين العلم والخرافة دون نسيان الصراعات الطبقية التي تتخذ تمظهرات عدة.
وفي شخصية "ياسين" (منتصر تبان) إبن حارس المدرسة نتجلى مخلفات الطبقية المقيتة التي تورث تفاصيلها السيئة الى الأطفال فتترجمها عقولهم الصغيرة الى سخرية واستهزاء بالآخر الذي يعتقدون انه أقل منهم شأنا، يكبر وتكبر معه عقده وتتحول الى جرائم يشفي فيها عطشه الى الانتقام ويتلاعب بمشاعر النساء.
هي أمراض المجتمع طرحها الفيلم وإن كان بعضها غير واضح المعالم، الخيانة الزوجية مطروحة في الفيلم عبر العلاقة بين " ياسين" و"إيناس" (ياسمين الذوادي) زوجة "فارس" وقاتلة أمه، مسألة الضمير المهني أيضا تجد لها مكانا في الفيلم من خلال ممارسات الأمني "محسن" (وليد الزين)والطبيب النفسي " فارس".
أما في علاقة بأداء الممثلين الذين قدموا في أغلبهم من عالم الكوميديا، فإنّه وإن سوّقت معلّقة الفيلم إلى أنّ بسّام الحمرواي هو الذي يؤدي دور البطولة فإن ممثلين آخرين افتكوا هذه البطولة في بعض المشاهد.
في المشهد الذي تلقّت فيه "سوسن" المعينة المنزلية خبر وفاة قريبتها، تمكّنت أروى بن اسماعيل من إقحام المتفرّج في تفاصيل المشهد دون مبالغة في الأداء، عبرت برعشة صوتها عن الفاجعة وتقاسيم وجهها وايمائاتها وأقنعت.
في لقطات كثيرة، ما انفكّ مالك بن سعد يثبت انه متمكن من خيوط الأداء، وفي دور "وجدي" طوع كل تعبيراتها ليشدّ إليه الأنظار بأداء سلسل ومقنع حتى أنّك تنسة أحيانا أنه شخصية في فليم.
زهرة الشتيوي ومنتصر تبان وسماح السنكري كانوا أوفياء لأدائهم وتركوا في الفيلم بصمتهم، كوثر داودي، شيراز حيدوري، وليد الزين، هاجر زيادي، ماهر جبالي وسيرين كريا، تماهوا هم الآخرين مع شخصيات الفيلم وإن كان غياب إدارة الممثل واضحا في بعض التفاصيل.
في علاقة باختيار أغنية تربط "فارس" بوالدته كان من الممكن ان يختار أغنية تراثية أخرى غير " وحش السرا وبروده" خاصة وأن المدوّنة التراثية زاخرة بالأغاني التي تصف الفراق واللوعة والوجع، ولكن في المجمل تبقى فكرة الفيلم جديدة ويظل تنفيذها والمراهنة عليها بصيص أمل لكل المخرجين الشبان الذين تعوزهم الامكانيات.