مسرحية “ويحدث أن”.. ذاكرة وأجساد ونور وسط العتمة

 يسرى الشيخاوي-

العتمة توشّح المكان، ونور خافت يتسرّب من "مصابيح" يحملها ثلاثة رجال وإمرأة، وإيقاع موسيقى غربية صاخبة تخترق كيانك وتهز ذاكرتك على نسق اهتزاز الأجساد أمامك، في توليفة تؤجّج صراع العقل والعاطفة.

وفيما عقلك يحاول أن يفكك  شيفرات المشهد على الركح في قاعة المبدعين الشبان بمدينة الثقافة، تتأرج عاطفتك بين الظلام الحالك وخيوط الضوء وألق العيون الذي يذهب ويعود.

بعد زمن من حديث الأجساد، زمن لا يخضع للقياس الفعلي للأزمنة، انسابت الكلمات على الركحي لتحاكي تعبيرات الأجساد، وكاما تعثرت كلمة بخطوة تبدّت ملامح مسرحية " ويحدث أن" لأوس ابراهيم.

"ويحدث أن" مسرحية تغرقك في دائرة من التأويل وأنت تجول بين عناصرها، بدءا من العنوان مرورا بالنص " المتونس" وأداء الممثلين والإخراج والكوريغرافيا والإضاءة والموسيقى المصاحبة.

 من فاتحة المسرحية تنطلق في التساؤل عن سر اختيار العنوان، تلاحق التفاصيل بين حركات الأجساد الراقصة وتعبيرات الوجوه وإيقاع الخطوات والإيماءات وبين مساحات الصمت.

والكوريغرافيا المفعمة بالمعاني تحيلك إلى أسئلة كثيرة عن الوجود وعن الوطن وعن الذاكرة وعن الجسد نفسه، وفي المراوحة بين الظلمة والإضاءة الخافتة تتجلّى لك بعض ملامح اقتباس المخرج أوس ابراهيم.

من صراع امٍرأة تحافظ على ذاكرة مكان يحمل ذكريات زوجها الذي غادر الحياة يحيلك العمل المسرحي إلى ذاكرة الوطن وإلى أولائك الذين يطفئون فيها أعقاب سجائرهم ليحجبوا بعض تفاصيلهم ويحكوا التاريخ بروايتهم.

ذاكرة تونس تتجلى لك من بين ثنايا العرض التي يبدو بعضها موغلا في الوحشة والظلمة وبعضها الآخر يتشبث بالنور على قلته، وذاكرتك تحملك إلى تفاصيل كثيرة تراوح بين الزيف والحقيقة حتى تعيدك أنفاس الممثلين التي تحاكي الايقاعات الصاخبة إلى الواقع.

بين تفاصيل نص "الدب" لأنطون تشيخوف الذي أوّله المخرج بطريقة فنية واستيتيقية وصبغه بطابع تونسي، يرتسم كل الواقع التونسي أمامك بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، هذه هي سمة بعص النصوص المرسحية العالمية قابلة للتأويل والمحاكاة في كل الأزمنة والامكنة.

هي حكاية إمرأة توفّي زوجها فتشبثت بذكراه العالقة بي جدران منزلها وصمّت آذانها عن مجاولات أخيها إقناعها ببيعه بعد أن أصبح ملاذا للسكّيرين والمعربدين، لكنها أيضا حكاية أسرة ومجتمع ووطن، حكاية روتها الكلمات والرقصات.

على الركح راوح أداء الممثلين بين الهدوء والصخب، وراوح النص بين الأصل والاقتباس وكانت الكوريغرافيا في كل مرة تتوسط هذه المراوحة وتقطع حبل تأويل الكلمات وتمتص بعضا من الحيرة.

وفي يسار الخشبة شاشة بيضاء ترتسم عليها ظلال أجساد الممثلين لتروي حكاية أخرى، وكأن المخرج يقول عبرها إنه لا ينبغي أن ننظر إلى الذاكرة والحقيقة من زاوية واحدة.

أما الرجل ذو الجسد الساكن، فهو الآخر يخرج عن سكونه كلّما تعالت إيقاعات الأغاني التونسية المعطّرة بأنفاس الماضي ليثب ألّا شيء ثابت في هذه الحياة وأن الطبيعة تأبى التكلّس والجمود.

ولأن الطبيعة تأبى الفراغ أيضا، فإن لحظات الفراغ التي تخلّفها أصوات الممثلين إن هي سكتت تعوضها أحاديثهم أجسادهم في الكوريغرافيا التي أوجدتها آمال لعويني التي تجيد لغة الجسد.

آمال لعويني، وحامد سعيد، وأسامة الشيخاوي، ومروان المرنيصي، ومؤنس بوكثير، خمسة ممثلين ملأوا الركح بأجسادهم ورووا حكاياتهم بأصواتهم وأنفاسهم وخطواتهم وتماهوا مع الموسيقى والضوء والظلمة، وخلقوا الضحكة على حدود المفارقة وشرّعوا أبواب التأويل والتفكير، لتكون المسرحية بوابة للتفكير والتفكّر.

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.