“old 9 school”: صوت الغضب والأمل والثورة التي لا تنطفئ

 يسرى الشيخاوي-

في شوارع جبل الجلود تشكّلت ملامح المجموعة الموسيقية "old 9 school"، في البدء كانت تجمع الثنائي "Tiga Black Na " و"Pazaman" شابان لفظتهما الدولة كما لفظت الكثيرين يستلهمان تعبيراتهم الفنية من اليومي المليء بحكايات الغضب والثورة.

هي ليست مجموعة موسيقية فحسب وإنما حركة تولّدت معها أولى صرخات الرفض وتصاعدت حتى صارت بعضا من الثورة التي لم تكتمل ولكنها لا تنطفئ أبدا، يظل ألقها يتسلل من بين كلماتهم وموسيقاهم. 

"old 9 school" حكاية جيل روتها توليفة موسيقية تنهل من كل الأنماط وكلمات من رحم الشوارع الخلفية لن يفهمها إلا من ذاق ويلات القمع والميز والتفرقة، حكاية قنصت كاميرا المخرج عبد الله يحي بعض تفاصيلها في فيلمه الوثائقي "نحن هنا" سنة اثنتي عشر وألفين.

في الفيلم الذي حاز على عدة جوائز، يبوح ابناء جبل الجلود ببعض من قصصهم الموجعة وهم الذين يعيشون حياتهم مرفوقين بوصم المنطقة التي يقطنون فيها، في نظر الكل هم مجرمون يعشقون الكحول والمخدرات ويهوون العنف.

الدولة التي التي رمتهم في عوالم لم يختاروها، احلامهم تتعثر دائما بواقع سوداوي يفرض عليهم ان يكونوا احيانا عنيفين حتّى تجاه أنفسهم، ولكن في الحقيقة هم حساسون جدّا لذلك تبدو ردود أفعالهم تجاه أوضاعهم قاسية.

بعيدا عن كل الصور النمطية التي زرعت في الأذهان عن بعض الاحياء الشعبية ومنها جبل الجلود، يقاوم جيل من اجل الحياة ومن اجل التغيير ومن اجل ان يقذف الوصوم في وجه مطلقيها، ويصدح بكلمات اكبر من حيهم ومن أعمارهم، كلمات تولّدت عن الشعور بالحنق تجاه دولة عمّقتهم غربتهم داخل وطنهم.

جيل نثر غضبه على شكل كلمات وألحان وزرع اولى بذور الثورة، أولاد الـ9 كانت بداية التأويل الفني لغضب الشارع، ورقم 9 ليس اعتباطيا فكل الانهج في جبل الجلود بلا أسماء ومن العدد 9000 ينطلق الاستدلال على الشوارع.

من اولاد الـ9 إلى "old 9 school"، استمرت حركة الرفض تلعن الواقع وتكفر بدولة فقرت وهمشت ودفعت إلى العنف وهيأت كل السبل لقمع جيل كامل وتفننت في ايجاد طرق للمحاسبة، في تلك الأثناء كانت بذور الثورة تنمو وسط الحنق والوجع اللذين يوشحان النظرات والاصوات.

 "بن علي كيفك كيف الغير الموت حق يا بنادم"، كلمات صدحت بها حناجر شباب سئم الهامش والتهميش في الوقت الذي تخرس فيه السنة اخرى عن الدكتاتورية والظلم والقمع، كلمات نتيجتها السجن ولكنهم حرروها من داخلهم، هذه بعض من التفاصيل التي وثقها المخرج عبد الله.

"نحن هنا" كلمات تقولها بلسان "Tiga Black Na " و"Pazaman" و"حليم اليوسفي" والموسيقيين المصاحبين لهم في حفل لـ"old 9 school" في المعهد الفرنسي، إثر عرض فيلم "فتح الله تي في " لوداد الزغلامي" حاملة اولى كاميرا تدخل جبل الجلود في عهد بن علي وصاحبة الفيلم الذي دام مخاضه عشر سنوات بدايتها سنة سبع وألفين.

على الركح حملوا معهم حكايات جيل كامل، قبل الثورة تقاسموا أركاحا تحت سقف الديكتاتورية وبأجنحة الثورة حلقت كلماتهم لتعانق الحرية ولكن ذلك الضيق الذي كانوا يستشعرونه لم ينجل كليا، كل ما في الأمر أنهم اليوم لا يتحدون عن صنصرة أو رقابة.

في حفلات بعيدة عن الاعين صدحوا بما يعتمر نفوسهم وعلت أصواتهم الغاضبة رغم ان الامر مكلف جدّا، ثمنه الحرية والحياة أحيانا ولكن مضوا في الطريق التي اختاروها لأنهم لم يرضوا يوما بالسجن البلوري الذي يعيشون فيه وكان فنهم المتنفس الوحيد.

بعد الثورة تبدّلت ملامح المجموعة الموسيقية وظل جوهرها على حالها، تماهت الكلمات المغمسة في التمرّد بموسيقى الريڨاي (Riggae) والراڨا (Ragga) والسكا (Ska)، وبقيت نصوصهم وفية للبدايات مفعمة بالرغبة في التغيير وواقعية جدا حدّ الوجع ومباشرة بطريقة مربكة.

الحماسة نفسها لا تخبو ولا تختفي بمرور السنوات، طاقة لا محدودة ينثرها الثنائي "Tiga Black Na " و"Pazaman" كلماتهم وتتناثر معها صور عن الثورة والحرية والسياسة والمجتمع والثقافة، كلماتهم تعري الواقع وتقف بك في نقطة فاصلة بين الماضي والحاضر.

على إيقاع الموسيقى التي تحاكي زخم الثورة، رقص الثنائي على الجراح المفتوحة وعانقوا أحلامهم التي تتشابك مع أحلام الشباب الحاضرين الذين استسلمت أجسادهم للرقص، وفي الرقص عود إلى أول العناق مع الفن حينما تقاسما الثنائي شغفه قبل أن يتحوّلا إلى الكلمات والموسيقى.

في تفاعل الجمهور مع كلمات أغانيهم وترديدها عدة رسائل من بينها تقاطع هواجسهم مع هواجس الآخرين خارج فتح الله، تمثلات الشباب للواقع في كل الجهات يعبرون عنها بكلمات قد تفهمها وقد تكتفي بتحسس معانيها من خلال تعبيرات أنيس مهواشي (Tiga Black Na) و أمين العمري (Pazaman).

زادهم العشق يغنيهم عن غياب الإمكانيات، كانوا يكتبون ويغنون ويتخفون من اعين الرقباء، حفلاتهم ممنوعة ولكنهم لا يستسلمون حتى صار صوتهم مسموعا ووجد له صدى في نفوس شباب سئموا أوضاعهم، ومازال إلى اليوم يخترق السواد والزيف.

عبر الراب كانوا امتدادا لحيّهم  يعرون زيف العدالة الاجتماعية والهوة بين الأحياء في تونس وينبئون بثورة في صفوف المهمشين والمفقرين والمنسيين، وحينما اشتعل فتيل الثورة وظفوا كلماتهم لتعرية مظالم اخرى.

على الركح الكلمات سلاحهم وصوتهم امتداد لمن لا صوت لهم، يواصلون القتال من أجل الحياة التي يحلمون بها على إيقاع نغمات باص قيس الفني التي تخطت  حدود المكان درامز خليل الهرماسي التي حفظت حركات الغضب والثورة.

وبين ألحان غيتارتي مراد مجول وفرات النفاثي سكنت أحلام ترنو إلى الحقيقة، ومن بين نوتات كلافيي وائل زيادي تجلّى الأمر في التغيير، ومن بين أنغام الساكسفون تبدّت صرخات السؤم من واقع لم يتغير كثيرا وكأن السنوات التي تلت الثورة تسير عكس الزمن، ولكن يظل الفن واجهة للحلم.

*الصورة من صفحة المعهد الفرنسي 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.