“فتح الله تي في”.. شارع خلفي وموسيقى وقصص أخرى

 يسرى الشيخاوي- 

"قف على ناصية الحلم وقاتلْ.. فَلَكَ الأجراس ما زالت تدقّ.. ولك الساعة ما زالت تدقُّ"، كلمات للشاعر محمود درويش تستحضرها حينما يعتلي الثلاثي "Pazaman" و "Tiga Black NA" و"حليم اليوسفي ركح قاعة الريو، وأعينهم تبوح بأنهم باقون هنا وعلى عهدهم الأوّل ماضون.

رغم الهواجس المتسربة من بين الكلمات والألحان، ينثرون الأمل على الركح وتلتحق بهم مخرجة فيلم " فتح الله تي في"، الوثائقي الذي تقاسموا فيه سنين التهميش والفقروالقمع والمقاومة، واليوم يتقاسمون الفرح لانطلاق عرض الفيلم في القاعات.

في قاعة الريو، تتعانق اصوات الثلاثي على نسق ايقاعات يبعث فيها مالك باكو الحياة وانغام يخلقها مراد مجول حينما يلامس اوتار الغيتار وتختزل ابتسامة وداد الزغلامي حديثا كثيرا.

لحظات تماهى فيها الماضي بالحاضر وارتسمت مسيرة فنية تمتد من سنة سبع وألفين إلى اليوم، بعض من ملامح جيل تجلّت في بوح موسيقيين باعدت بينهم مسارات الحياة ولكن جمعتهم رسالة هي "لنا الفن كي لا يقتلنا الواقع".

رسالة يحملونها في قلوبهم ويوشحون بها كلمات اغانيهم وتطرز بها المخرجة وداد الزغلامي تفاصيل فيلمها الوثائقي "فتح الله تي في"، الفيلم الذي يخلق من الوجع فرحا ومن اليأس املا ومن النهاية بداية جديدة.

"لمّتهم" على الركح كسرت حدود الزمان وعادت بالذاكرة الى سنوات ماقبل الثورة أنى تقاسموا الهواجس والاندفاع وكفروا بالخوف في رحلة بحثهم عن سبل تأخذهم بعيدا عن واقع أسود يتسرب القنوت من كل تفاصيله..

اكثر من رمزية لـ"لمّة" وداد الزغلامي وشخصيات فيلمها على الركح والموسيقى تصدح وتملأ كل الفراغات، رمزيات تتأرجح بين أمل واصرار وثورة لم تنطفئ انفاسها بعد ولن يسكت نبضها.

من السينما التي بدأ فيها الواقع الحقيقي عاريا من كل زيف  وكانت فيها "فتح الله" حيزا مكانيا ورمزيا، الى الموسيقى التي تنشد واقعا متخيلا، يظل الفن نافذة على وطن يلفظ ابناءه ولكنهم يتنفسون رائحة ترابه.

رحلة عقد من الزمن، كانت انطلاقتها برغبة جامحة من مخرجة عشرينية شدها الاسلوب الموسيقي لحليم اليوسفي ورأت فيه بذرة عمل وثائقي، ولم تثنها عبارة "حي ساخن" عن تحقيق رغبتها ووجدت نفسها في منطقة فتح من جبل الجلود.

ومن الموسيقى تفرع الفيلم الى قضايا مجتمعية واقتصادية وسياسية وثقافية، ومن رحم المعاناة في جبل الجلود تبدّت قصص قتال من أجل الحياة، حياة لا عدل فيها ولا مساواة ولا مكان فيها للفوارق التي اتسعت هوتها حتى كادت تبتلع الكل.

المحبة والفن وحدهم كانا كفيلين بطمس معالم الهوّة التي لم تختف إلى اليوم، فالمشاهد والشهادات في الفيلم ليست هجينة على الواقع اليوم بل تمتد فيه وتمد جذورها أكثر فالحقيقة أن الثورة لم تحدث قطيعة ولم تغير وجه جبل الجلود.

هذه الحقيقة حينما تصطدم بنظرات الأمل في أعين أفراد تلاحقهم وصوم المجتمع وتعرض عنهم الدولة، تنتاب الفوضى مشاعرك وتتشابك عبراتك بابتسامات رفض وسخرية.

كذبة العدالة الاجتماعية تتهادى عارية في الفيلم، وصرخات التمرّد مازالت تتطلع إلى الأفق ولن تسكت بمجرّد سقوط نظام والرغبة في التغيير لن تخبو مادام الحكام الجدد يخلقون "ليلا" جديدا و"قيدا " مغايرا.

على إيقاع الصور والكلمات تتوالد الأسئلة وتتصارع الأجوبة، ويتغلغل الوجع داخلك حتى تتمنى لو كان للحكومات أعين تمد نحوها سبابتك لتفقأها مادامت في كل الحالات لا ترمق الهامش بنظرة ودّ، تلك السبابة التي غمستها مرارا في حبر صبغ الوضع في بعض المناطق بلونه.

في بعض المشاهد يتخذ الفيلم بعدا روائيا جعل منه وثيقة سينمائية مختلفة وهو الذي يروي تجربة أسبق من الثورة وأبقى من كل التهميش والنسيان، تجربة مكنت المتداخلين فيها من خلق معاني أخرى لحيواتهم بعيدا عن السوداوية والانهزامية.

مواطنون من الدرجة الثانية، وربما الثالثة ، لا معنى للأرقام التي تلي رقم واحد ولكنهم يحبون تونس حتى في خرابها الأخير، قد يزينون الكلمات ويختارون أكثرها تأثيرا ولكن ذلك الألق المرتسم في عيونهم عند الحديث عنها لا يكذب.

عند الحديث عن الأرقام، لا يمكن المرور دون الحديث عن مشهد يوثق أنهجا يستدل عليها بأرقام، لا أسماء للأنهج في سيدي فتح الله، ولكن شخصيات الوثائقي تحدّت دلالة هذه الأرقام ولم يرضوا بأن يكونوا مجرّد أرقام في سجل الولادات.

بعيدا عن الفقر والتهميش والقبح الذي يسكن في بعض التفاصيل، رسمت وداد الزغلامي بكاميراها وجها جميلا لجبل الجلود إذ اقتحمت دواخل بعض أبنائها فاستنطقت ابتساماتها وطرافتهم ومزاحهم.

في السيناريو نأت وداد الزغلامي بالكتابة عن منطق الإثارة واستجداء الشفقة وصورت الحقيقة كماهي بلا زيف حتى وجدت نفسها شخصية داخل الفيلم تقاسم رفاق حلمها الحزن والفرح.

سجن كبير، يعيش فيه الكل دون استثناء، بعضهم يعي وبعضهم الآخر لا يعي لان الأبواب مشرعة أمامهم، سجن كان الفن وسيلة لتجاوز عتباته ومساءلة المجتمع والثورة والذات، وبالموسيقى والكلمات والألوان والصور.

وفي شارع خلفي، وثقت الكاميرا تجربة جيل قاتل من أجل الحياة وقاوم كل تجليات الموت، تجربة تمتد على عشر سنوات، وتليها ثلاث سنوات اخرى، تتفحص تفاصيلها فيتبين لك أن الوضع لم يتغير بالقدر الكافي، التغيير كان سطحيا ولم يكن بذلك العمق الذي يحاكي صرخات الظلم والقهر.

من أركان سيدي فتح الله المنسية وزواياها الحبلى بالشغف والإرادة، تفقه معنى التمسك بالحلم إلى آخر رمق، وتبتسم وانت تعايش أحلاما قد أزهرت رغم القحط من حولها، وكانت الزهور " فيلم فتح الله تي في الذي رأى النور بعد مخاض عسيرة، ومجموعتة قولتره نظام صوتي التي يصدح فيها صوت حليم اليوسفي وألحانه و "old 9 school" التي يعلو فيها كلمات "Pazaman" و "Tiga Black NA".

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.