51
يسرى الشيخاوي-
موسيقي أصل ألحانه ثابت في الهوية العربية بشقيها المغربي والمشرقي وفرعها يعانق موسيقات العالم، مسيرته الموسيقية شبيهة بالشجرة من الليل ينسج أحلاما وفي كل التفاصيل يلاحق الحرّية.
ألحانه تحاكي أغصانا تعانق السماء وتنحني لقطرات الندى، لكل غصن رواية مدادها الأمل، وأسلوبه الفني انعكاس لعروق ضاربة في وطنه تسكنها أفكار وهواجس وآمال، هو عازف العود حلمي مهذبي.
تونسي الهوية كوني الهوى، ينبش في في أصل الموسيقى العربية ويوجد نقاط وصل مع موسيقات العالم، في موسيقاه جنون وتمرّد وانعتاق والتزام بقضايا الإنسان حيثما كان، في موسيقاه آهات العشق وانات الشوق وأنفاس الفرح.
عشقه للموسيقى بزغ في سنوات الطفولة ليكبر معه كلما تتالت السنين، تعلّق قلبه بالإيقاع وضرب على وجه " الدربوكة" بيديه الصغيرتين، كانت البداية بشكل عصامي لبّى فيه رغبة داخلية في العزف، شغف بالموسيقى تحوّل إلى خُلة صار معها العود خليله ورفيق روحه وجسده ومساراته.
في عشق العود..
أول مصافحة له مع الآلات الموسيقية مع "الدربوكة" التي كانت تؤنس مسامرات العائلة وأصدقائها الموسيقيين، ومع كل إيقاع كانوا يلمسون فيه شغفا بالموسيقى، شغف تنامى داخله حتى طلب من والدته أن تلحقه بناد للموسيقى حتى يتقن العزف وكان أن اختار عزف الإيقاع والعود.
فصل جديد في حكايته انطلق في ناد للموسيقى بالمنزه السادس يشرف عليه الموسيقي بشير السالمي، سنة تمهيدية أمضاها بين شجن العود وصخب الايقاع قبل أن يلتحق بالمركز الوطني للموسيقى بسيدي صابر حيث تمسّك بعزف العود وحل البيانو محل الإيقاع.
مسيرة موسيقية غير خطّية، تتالت فصولها، وتبدّلت أحداثها على إيقاع المتغيرات الزمكانية، ففي سنين المراهقة رام حلمي مهذبي السفر إلى ايطاليا وفيها كانت سنوات من القطيعة مع العزف، لم يدرس الموسيقى ولم يعزف أمام جمهور.
والعود إلى الموسيقى كان مع العزف على البيانو في المنزل لكي لا ينقطع ذلك الخيط الرقيق معها، إلى أن ضم العود إلى صدره وباح له بكل ما يعتمره، لم يكن الامر من باب الصدفة، وفق حديثه، بل كان حتمية للتشبث بجذوره ومعانقة ذكرياته قبل أن يحل بإيطاليا.
حينما تصغي إلى حديثه عن مسيرته تفقد السنين دلالتها، وتتولّد المعاني عن الموسيقى حتّى يبدو لك أن مسارات حياته لا تتحدّد بالزمن الفعلي وإنما بزمن موسيقي تمر عليه الصعوبات ولكنه لا يحمل معه ذكراها.
في إيطاليا لم تكن حياته ملهاة ولكنها أيضا ليست بالمأساة، واجه صعوبات قد يبدو عدم اكتمال ملامح شخصيته وهويته أعمقها، هو الشاب الذي يعيش في مدينة جميلة في أقصى شمال إيطاليا، لكن هذا الجمال لم ينف غربته خاصة أنها لا تؤوي الكثير من العرب.
حينما بحث في أعماقه عن سبيل تعيده إلى جذوره ووطنه وهويته تبدّى عشق العود داخله واستبد به الحنين إلى الريشة والأوتار وكانت بداية الألفية الثانية فارقة في حياته فمنذ أن حضن العود لم يتركه إلى اليوم.
على ضفاف الأنهار والوديان في المدينة الإيطالية الجميلة، جالس عوده وحوّل كل مشاعره إلى ألحان داعبت الخضرة التي تغزو المكان ووجد الطريق إليه، طريق رافقه فيها العود الذي كان يرى فيه هويته وجذوره ويختال طربا وهو يتهادى به أمام أفراد يتساءلون عن ماهية الآلة الموسيقية "الغريبة" عنهم.
سفر بين عوالم فنية..
غربة روحه آنسها العود وألحانه، كان العزف ملاذه وإن لم يجد معهدا للموسيقى يواصل فيه ما بدأه في تونس حتى التقى بعازف كمنجة ايطالي له صيت في المشهد الموسيقي تغيّرت معه حياته، على حد تعبيره، عازف فتح له أبواب السفر في عوالم فنية مختلفة.
وكان أول مشروع موسيقي جمعه به، أوركستر متعدد الإثنيات ضم موسيقيين لا يمرون على عمل فني إلا وتركوا فيهم بصمتهم، موسيقيون من أمريكا اللاتينية والهند والموزمبيق وكان هو العازف العربي الوحيد بينهم.
جولات كثيرة داخل ايطاليا وخارجها للاوركستر، مع كل جولة منها كانت ملامح الرؤية الفنية لحلمي مهذبي تتضح أكثر، ومع نفس العازف الإيطالي جمعه مشروع يضم خمسة عازفين من بلدان مختلفة، تجربة جديدة كان فيها مؤلفا موسيقيا.
عازف عود تونسي، وعازف إيقاع من الهند، وعازف ساكسفون وفلوت من كوبا، وعازف كمان الحب من ايطاليا وعازف بيانو أمريكي مقيم بإيطاليا، توليفة موسيقية تماهت فيها ثقافات وحضارات مختلفة وانصهرت فيها تجارب موسيقية متعددة ليتشكّل مشروع " Turchese".
وتسمية المشروع تعني اللون الفيروزي باللغة الايطالية، وعنها يقول إن اللون الفيروزي يذكره بلون البحر الأبيض المتوسط وبألوان مدينة سيدي بوسعيد التونسية كما أن الفيروز حجر علاجي يغرق الفرد في راحة نفسية لا محدودة، تماما كما الموسيقى التي يؤلفها ويعزفها والمرافقين له في المشروع.
ولأن السفر عنوان لمسيرته الموسيقية خير أن يكون اسم الألبوم الاول للمجموعة الموسيقية "سفر" وفيه ترحال بين الإيقاعات العربية والإيقاعات الغربية وفي ألحانه تتعانق موسيقات العالم وتنتفي الحدود الجغرافية ويتوقف الزمن.
مجدّدا في موسيقاه، منفتحا بنغمات عوده على كل الألحان وكأنه يطرد من داخله ذكريات المدينة الإيطالية المنغلقة على نفسها، يمضي نحو عالم الفلامنكو الذي زينه بلمسة عربية ويتعاون مع مغنية وراقصة تترجم بحركات جسدها الألحان الحرة التي مزقت أغلال العنصرية والخوف من الآخر.
"حجاز"، مشروع موسيقي آخر جمعه بعازف طبلة هندي معروف في ايطاليا واوروبا، وعازف ساكس وفلوت وكلارينات من باريس أضاف له الكثير عن موسيقى الجاز، وفي اسم المشروع تلاعب بالحروف فإن كتب بالحروف اللاتينية "Hijaz" يترجم "مرحبا جاز"، وفي كلتا الحالتين تصب التسمية في أصل المشروع.
وفي المشروع الموسيقي، معزوفة بعنوان " حجاز" المقام الشرقي وفيه طابع الجاز وفيه قطع مع السائد والنمطي من خلال قراءة أشعار بصوت أنثوي يمتزج بألحان تنبذ الحروب وتلاحق السلم.
ومن إيطاليا إلى باريس، تشكلت ملامح مرحلة جديدة في مسيرة الموسيقي الذي مر بنفس المكان الذي مر به كبار عازفي العود أحمد الخطيب ومارسيل خليفة وظافر يوسف وتريو جبران وغيرهم.
تجربة يقول عنها حلمي مهذبي إنها مثمرة خاصة أنه قد ترك بصمته الموسيقية في مشهدية يكثر فيها الانتاج الفني، وكان "Helmi Mhadhbi Project" مشروعه الموسيقي الجديد الذي يروي فيه بعضا من قصصه مع الحياة بكل ما تحمله من تناقضات.
سائر على نفس النهج، منفتح على موسيقات العالم، يتقاسم الركح في الحفلات مع عازف كامونشي الكمنجة الايرانية وعازف غيتار ايطالي وعازف إيقاع فسلطيني، حفلات متتالية كان أولها في دار تونس بباريس حيث تماهى الحنين بالعشق وصدحت موسيقى تعبر عما تعجز نفسه عن البوح به.
من حفلة إلى أخرى، كان مشروع حلمي المهذبي يروق الجمهور، وكان الموسيقي الذي تتلمذ على يد عازفي العود العراقي نصير شمّة والتركي محمد بيتماز وتشبع بموسيقات العالم يبصر تجربته الموسيقية وهي تزهر على أركاح كثيرة.
سفر بين الفني والإنساني..
تجارب إنسانية كثيرة خاضها حلمي مهذبي في مسيرته الموسيقية، من الشعور بالغربة فالعود إلى الجذور إلى الالتزام بقضايا الإنسان والانفتاح على موسيقيين من العالم ورحلة العلاج بالموسيقى التي كانت متفرّدة وملهمة.
من حكايا العنصرية والخوف من الآخر التي عقبت احداث الحادي عشر من سبتمبر نسج بعض ملامح موسيقاه، تلك الفترة الصعبة التي عايشها العرب ترجمها إلى ألحان وإن لم يذق ويلات العنصرية كثيرا بفضل ملامح محياه، وفق قوله.
وفي المشروع الموسيقي الذي جمعه بالفنانة دلال سليمان كانت ألحانه امتدادا لصرخات الأراضي الفلسطينية المغتصبة، وفي كل مصافحة له مع الجمهور كان يروي حكاياته ليكسر تلك الجدران النمطية في علاقة الفنان بالجمهور.
من بين الحكايا التي تلاها على الركح، أصل معزوفة " نظرة ليل"، وليل هو الاسم الذي أطلقه على تلك الطفلة الفلسطينية التي فقدت عائلتها ذات قصف على شواطئ غزة، وفي غمرة تفاعل الجمهور مع الألحان نصر القضية الفلسطيننية امام جمهور جله غير عرب ولافكرة لديه في الغالب عن تمثلات العرب للمرأة ولقضايا الإنسانية.
كانت الموسيقى مع حلمي مهذبي تعبيرة عن رفضه الاحتلال واعتناقه الحرية دينا حتى أن ذلك كلفه بعض التضييقات العابرة كما الغزاة، ومنها ولج إلى عوالم ساءل فيها إنسانيته ووجوده وعرف سر حبه للموسيقى التي سمعها في صرخته الاولى عند ولادته ويسمعها كل حين في كل نفس وكل نبض.
ومع تخصصه في العلاج بالموسيقى توشّحت مسيرته ببعد إنساني عميق لا يفقه معانيه إلا هو صاحب التجربة، في البداية كان الامر محض حلم سكن عقله ووجدانه حينما كان يدرس موسيقى في سن الحادية عشر.
الحلم تولّد من مشاهدة فيلم وثائقي يروي تجربة طبيب نفسي لجأ إلى الموسيقى في العلاج واستحضر تاريخ هذه التقنية العلاجية التي تثبت تأثير الموسيقى في نفسية الإنسان، في ذلك الحين لم يسمع عن هذا الاختصاص.
في دروب الحياة سار وتفرعت مساراته الموسيقية والانسانية، وكان ان جمعه حديث بعازفة كمنجة أخبرته أنها تدرس اختصاص العلاج بالموسيقى، حينها صحا الحلم وغازله من جديد وكانت شهادة الباكلوريا عقبة شاءت إرادته ان يتجوزها.
في نفس السنة التي عانق فيها حلمه كان قد التحق بمقاعد الدراسة من جديد بعد ان رجح كفة العمل ليستقل بذاته، وأجرى امتحانا في المدرسة التي تدرس اختصاص العلاج بالموسيقى دون أن يكون قد تحصّل على شهادة الباكالوريا لكنه نجح في الامتحان والتحق به لأن ملمح عازف العود أعجب المشرفين على الامتحان.
وكان الحصول على شهادة الباكالوريا، في منتصف مدة الدراسة شرطهم، وسنة صار حلمه حقيقية حاز على الشهادة الشرط وتحصل بعدها على الإجازة في العلاج بالموسيقى بالتوازي مع إجازة في علم الاجتماع.
ومع الاختصاص الجدد، تفتحت دروب أخرى لحلمي مهذبي غيرت فيه الكثير وهو الذي مارس اختصاصه في أقسام بعضها يؤوي المصابين بالامراض المعدية وبعضهم لا يرجى أمل من من شفائهم وبعضهم مصابون بالزهايمر.
تجربة جعلته يتساءل عن معنى الموت ومعنى الحياة ويفقه معنى اللحظة، وفق تعبير الموسيقي الذي خاض تجربة مع الطلبة في إطار مشروع " معنى الصوت" في جامعة إيطالية الهدف منه تخفيف الضغط وتجربة أخرى مع الأطفال.
وهو اليوم يحضن حلمه في العلاج بالموسيقى للأمراض النفسية الاكتئاب والتقلب المزاجي واضطراب الشخصية وغيرها من الامراض التي تلم بالنفس، في انتظار رحلات أخرى يخوضها وهو يعانق عوده.