يسرى الشيخاوي-
"سامحوني …حاولت !!! انتهت مغامرة فضاء المخزن (2005/2020) … فريق المخزن شكرا أنتم أحرار … قريبا ندوة صحفية… الموضوع: الأسباب واستعراض 15 عام نشاط …"، عبارات للفنان محمد علي بن جمعة أعلن بها نهاية تجربة راسخة في الذاكرة الفنية، إعلان لم يستوعبه المتابعون لنشاط المخزن الثقافي وحتى هو نفسه لا يستوعبه ولن يستوعبه.
خمسة عشر سنة من الالتحام بالأطفال والشباب ومراكمة التجارب الفنية وتقاسم كل الانفعالات، تتوقف معها اليوم عقارب الساعة خشية أن يصبح قرار غلق المخزن حقيقة لا مفر منها، قرار يذوي معه نور الفن الذي كان يتسرب من المركز ليضيء باب سويقة وجهات كثيرة في الجمهورية التونسية، فالمخزن طكا الشجرة أصلها في باب سويقة وفروعها تمتد إلى بعيد.
تحدّ محفوف بالمجازفة خاضة محمد علي بن جمعة حينما حوّل مستودعا لتخزين السلع لفضاء ثقافي يضم نوادي مسرح وموسيقى وسينما وفن تشكيلي وأدب وأنشطة أخرى توجدها قريحته في كل مرة يبحث فيها عن زاوية أخرى لتقريب الفن من البعيدين عنه.
سنة خمس وألفين، تحوّل حلم محمد علي بن جمعة في أن يكون باعث فضاء ثقافي إلى حقيقة، بعد أن نثر الغبار عن مخزن بجهة باب سويقة يعود لوالده وكان قد سلمه مفاتيحه ليهتم به، فاهتم به على طريقته.
ومن ورشات عمل ولقاءات توسّع نشاط المخزن بعد حصوله على منحة تسيير من وزارة الثقافة وكبر الحلم بأحلام أطفال نثروا في أرجاء المخزن ضحكاتهم وأمالهم ونحتوا فيه شخصياتهم الفنية خطوة خطوة.
هو ابن باب سويقة التي أراد لها ان تستعيد بريقها الثقافي بعد أن طغى عليها التجاري، و"الرابور" الذي كانت تجربته في هذا المجال فرصة لملامسة هموم الشباب عن قرب، الأمر الذي يسّر تهيئة فضاء المخزن الثقافي.
فنون كثيرة يعانقها الأطفال والشباب في فضاء المخزن حيث تزهر آمالهم وتينعن أحلامهم في حضن حلم كبير حموله محمد علي بن جمعة وفنانو آخرون يؤمنون بثقافة القرب في قلوبهم، ولكن هذا الحلم يحتضر اليوم إذ لم يحصل على منحته السنوية المخصصة من وزارة الثقافة.
اليوم تتخطى مصاريف المخزن قدرة محمد علي بن جمعة على مقاومته، وهذا الأمر ينسحب على فضاءات ثقافية كثيرة وأدها أصحابها، وقد يكتم أصحاب هذه الفضاءات الألم داخلهم ويتعايشون مع الوجع ولكن كيف سيتقبل من ألف زواياها وأركانها هذا الأمر.
مشاريع كثيرة رأت النور في المخزن، مشاريع تلامس كل الفنون التي طوعها الشباب في باب سويقة وغيرها من الجهات لتكون تعبيرات عن تمثلاتهم للواقع، مشاريع تنتشل الأطفال والشباب من براثن الانحراف بمختلف تمظهراته، لكن هذه المشاريع لم تشفع له لدى الجهة المعنية وهاهو باب المخزن يوشك على أن يوصد.
مشاريع ثقافية وفنية تقوم على بحث عميق يشمل الجوانب الاجتماعية والنفسية للفئة المستهدفة، تتجاوز الحاجز تلو الحاجز ولكنها اليوم تقف عاجزة عن الاستمرار لغياب الدعم المادي.
ووسط كل هذه السوداوية، مازال محمد علي بن جمعة متشبثا بحلمه يدافع عنه بكل ما أوتي وزاده حب لخدمة الفن بعيدا عن المآرب التجارية والربحية، ورغم مرارة الإعلان عن قرار غلق المخزن الثقافي إلا أنه مازال إلى اليوم يحلم بفعل ثقافي يلامس كل جهات البلاد من شمالها إلى جنوبه.
وامام سوريالية المشهد الثقافي في تونس وكوميديا الشعارات الرنانة المتعلقّة بثقافة القرب والاستثمار في الثقافة، كان في اللقاء الذي جمع الفنان محمد علي بن جمعة بوزيرة الثقافة في حكومة تصريف الأعمال شيراز العتيري بعضا من الامل في حلحلة هذه الازمة التي يرجو الكثيرون ممن يؤمنون بدور الفعل الثقافي في الرقي بالمجتمعات أن تكون عابرة.
وإن أكّدت العتيري حرص الوزارة على تشجيع مثل هذه المبادرات التي يقودها مبدعون في المجال الفني ولا سيما فضاء "المخزن" وذلك لدوره المهم في تجسيد ثقافة القرب وأهمية الاستثمار في المجال الثقافي، فلزام على الوزارة اليوم أن تتحرك لأن المخزن الثقافي حلم لا بد ان يستمر لأن في غلق هذا الفضاء كوابيس لأطفال وشبان وجدوا فيه ملاذا.