17
يسرى الشيخاوي-
لا مغزى للحياة، إن لم تُرو تفاصيلها في كيانات تزيّن ثناياها، أصواتا كانت أو كلمات أو أضواء أو لحظات صمت أو صورا ملونة وأخرى بيضاء، لا مغزى للحياة إن لم تسكن الثورة في مساراتها وخطوطها، ثورة تحاكي تعبيرا فنيا يكسر حاجز المألوف ويمتص الاختلاف بكل تمظهراته لينسج منه تناغما واتساقا.
ومع كل محاولة لخلق مغزى للحياة تتناثر خطوطها المتشابكة كالجدائل ومساراتها المتداخلة كالغصون، وتتجلى كل أحداثها عارية امام المرء في لحظات بعينها، لحظات تسكت فيها عقارب الساعة ويتكلم نبض القلب ويعلو صخب الذاكرة.
الخطوط في ايدينا واكفنا والعروق والشرايين وأمائر الحوادث والندوب تخلق لها ألسنة وتشهد بكل ما حفظته طيلة مسيرة فرد في طرقات اختارها وأخرى اختارته ، حينها قد يعجز لسانك عن ترجمة احاديثها ولكن الموسيقى وحدها قادرة على ترجمة التجارب الإنسانية والوجودية والحسيّة.
ومالألبوم الأول لعازف الباص سليم عبيدة فريكونص باص"Fréquences basses" إلا برهانا على قدرة الموسيقى على محاكاة حياة الإنسان بكل ما تحويه من تناقضات تمتد بين اليأس والأمل والشجن والنشوة والسجن والحرية.
وفي الرابع عشر من مارس الماضي رأى الألبوم النور على منصات التحميل الرقمية، ليكون تعبيرة عن هواجس ملحّن وعازف روى تجربته الوجودية عبر سردية موسيقية صبّ فيها كل الانفعالات التي ترافق الإنسان في رحلة الحياة التي تتخذ فيها الولادة والموت هيئات كثيرة.
تناقضات الحياة من عناق السماء في حالات الصعود إلى تقبيل الأرض في حالات الانحناء، الذكريات والحماقات والخطايا والخيبات والضحكات والعبرات والأسرار ما أشيع منها وما ظل مركونا في خانة الوجع، خلق منها العازف والملحن سليم عبيدة موسيقى أصلها ثابت في تجربته الذاتية وفرعها يمتد إلى سماء الإنسانية.
مسيرة مدادها الشغف
رباط مقدّس يجمعه بالموسيقى، تولّد عن صدفة قد تبدو للبعض مضحكة ولكنها حمالة معاني ورسائل، فهو لم يدرس الموسيقى وربّما في تلك الفترة لم يكن ينوي ذلك ولكنه كان مولعا بموسيقات العالم من جاز وميتال وكان أن جمعته الرفقة مع عازفين أرادوا أن يكونوا فرقة موسيقة وكان ينقصهم عازف باص وآل الأمر إليه.
واليوم الغيتار باص رفيقه وأنيسه ولسانه وأنفاسه ونبضه، يترجم به أحاسيسه وهواجسه وتمثلاته للحياة وللواقع من حوله وينسج به أحلامه ورغباته الظاهرة والباطنة وينشد به آفاق الحرّية.
عصامي التكوين لكن شغفه كان أقوى من كل العوائق التي ترافق البدايات، وصارت الصدفة قدرا وصار يجول بالغيتار باص بين التلوينات الموسيقية المختلفة من الميتال إلى الريڨاي والڨناوي والجاز.
وسنة ألفين وإثنين كان أحد مؤسسي أول مجموعة موسيقية ميتال في تونس ملموث "melmoth"، مجموعة تمكنت في ظرف وجيز من ان تكون من بين الفرق المعروفة في مشهدية الروك والميتال في تونس وخارجها إذ عزفت في تظاهرات في كل المغرب والجزائر.
وشغفه بالغيتار باص يحمله في كل مرة لتجربة جديدة فقد شارك سنة خمس وألفين في إطلاق ڨولتره نظام صوتي المشروع الموسيقي الذي تتماهى فيه موسيقى الڨناوي والريڨاي والذي شدّ إليه الجمهور لتجوب عروضه كافة جهات الجمهورية.
من الڨناوي والريڨاي إلى تلوينات الجاز، يخط فصلا آخر في مسيرته الموسيقية وكان ميلاد مجموعة "جاز أويل" سنة ثمان وألفين، مشروع موسيقي متفرّد شارك فيه عازف القانون نضال جوّة لتمدّ معزوفات المجموعة جسرا بين الشرق والغرب.
رصيد موسيقي يأبى الحصر ومرافقات لعدد من الفنانين، تجارب كثيرة خاضها سليم عبيدة قبل أن يصدر ألبومه الأوّل الذي يمثّل سردية موسيقية لحياة فنان ومساراته المتعدّدة، ألبوم عماده حاءات ست.
الحاءات الست
الحياة والحريّة والحب والحلم والحنين والحرب، ست حاءات تطالعك وأنت تجول بين عناوين الألبوم، ألبوم قلبه أنغام الغيتار باص وشرايينه آلات موسيقية شرقية وغربية تحاكي أنغامها تردّدات الحياة.
في عمق الوجود الإنساني تتنزّل هذه التجربة الموسيقية، من الحياة التي لن تفقه معانيها ما لم تدن من الموت مرات إلى الحرية التي لا معنى لها إن لم تكسرالقيود وتهدم الحدود والحب الذي لن يزهر في قلبك ما لم تسقه بالدموع وأحيانا بالدم والحلم الذي لن تعانقه ما لم تتعثر بعقبات الواقع والحنين الذي لن يستعر داخلك إلا إذا غادرت الشرنقة وقطعت الحبل السري مع الجمود، إلى الحرب التي تخوضها في كل مرة كي لا تموت.
أسئلة وجودية كثيرة يؤوّلها سليم عبيدة موسيقيا عبر أنغام الغيتار باص إذ يداعب أوتارها، وأنين الفلوت إذ سكبت فيها العازفة "fanny vallois" بعضا من روحها،
ونغمات الترومبات إذ بث فيها "clément barkatz" أنفاسه، وصرخات السكسفون إذ ناجاه "alexandre merancienne"، وبوح الكلافييه إذ لامسته أصابع "edison knight"،ونوتات الغيتار الكتريك إذ غازلته انامل محمد بن فرج، وحماسة الدرامز إذ هوت عليها عصي لونيس محروش.
"changing lives "، و" Confidences "، و"khomsa"، و"night in Sète"، و" petit enfant"، و"amazigh"، و"exit" و"tariq"، ثمانية معزوفات تختزل تجارب عيش ممتدة في الزمان والمكان لا تعترف بحدود جغرافية ولا تاريخية، هي محاكاة لهواجس الإنسان حيثما ما كان وأنى كان وإن كانت بالأساس نابعة من تجارب ذاتية لسلم عبيدة.
أما معزوفة "changing lives " فتحيل إلى كل تلك التغيرات التي تطرأ على الإنسان من لحظة ولادته إلى لحظة رحيله عن هذا العالم لتنشطر الحياة إلى حيوات قد يكون من الصعب أحيانا عدّها، هي معزوفة ذات طابع ديناميكي فيها مزيج من الجاز والفانك وحضور الفلوت فيها طاغ فنغماته تحاكي لحظات الانتقال من حياة إلى أخرى، هي بعض من البرزخ الذي يفصل بين حياتين على الأرض.
وفي "Confidences" إحالة إلى كل تلك الأسرار التي تسكن دواخل المرء ولا يقوى على البوح بها تؤلمه احيانا ولكنه لا يلفظه يظل يربت عليها ساعات الحنين، هي معزوفة تتكلم عن كل ما يستحيل الحديث عنه، يقول فيها الدرامز قزله في ريتم مغربي، ويعكس فيها الفلوت طقوس المناجاة قبل أن تلتحق بقية الآلات الموسيقية وكأنها تخبر المستمع أنه ليس وحده وإن كان المكان خاو من حوله.
أما "khomsa" فهي معزوفة موشحة بالحنين، فيها إحالة إلى معتقدات الجدات والامهات اللاتي يؤمن بقدرة يد فاطمة على الحراسة من العين الشريرة، وفيها عود إلى الفلكلور الموسيقي التونسي عبر ايثاع الفزاعي والغيطة وصوت الطبلة المنساب بين نغمات البيانو والباص.
فيما تروي "night in Sèt" تجربة سبر تفاصيل مدينة "سات" التي تقع جنوب فرنسا، مدينة متوسطية حدّ النخاع، هو الحنين مرة أخرى إلى الجذور تترجمه موسيقى ذات طابع ليلي تزينها مسحة ناعمة من الجاز.
والموسيقى في "petit enfant" تعكس مشاعر الحنين التي يحملها كل إمرء لطفولته، لضحكاته التي لا حد لها وعبراته التي تجف حينما يربت احدهم على كتفه، في هذه المعزوفة تبدو احاسيس الفنان مرهفة جدا وشفافة جدّا كالماء ولا آلة موسيقية تعبّر عنه كما يفعل الغيتار باص رفيق أحلامه.
أما معزوفة "أمازيغ" فتعبق بأنفاس الحرية وتحمل بين طياته اعترافا بالثقافة الامازيغية التي طبعت التاريخ في شمال افريقيا، وفيها ترسم النوتات السفر حقا كونيا لكل انسان ويتجلى ثراء الأنساق الموسيقية المغربية وتتسلل قرقعة القراقب من بين النغمات تحاكي الأصوات الثائرة المنادية بالحرية.
وفي "exit" المعزوفة التي تنهل من المودرن جاز تتسارع ترددات الموسيقى تنشد الحرية وتعلي حق الاختلاف وتنادي بقبول الآخر لتكون الموسيقى في صف الحريات الفردية ضد الدغمائية والتعصب، موسيقى تدين كل الدكتاتوريات وأشكال القمع وتدين بدين الإنسانية.
فيما تترجم "tariq" مسارات الإنسان المشاء قي دروب الحياة والحريّة والحب والحلم والحنين والحرب، يسائل ذاته وجذوره وثقافته وكينونته وينتج المعنى تلو المعنى ليتحرر من قيود يتفنن الآخر في صناعتها بأشكال مختلفة، في هذه المعزوفة يتزين الجاز بلمسة شرقية عبر حضور الطار.