جزيرة قرقنة: عن البحر والليل والجن

 أمل الصامت –

كثيرة هي النغمات التي يمكن أن ترافقك في رحلتك من مدينة صفاقس نحو جزيرة قرقنة منذ أن تطأ قدماك "محطة اللود".. فمن "ودّوني على بلادي" إلى "شط قرقنة" و"يلّي ماشي للجزيرة" و"يا شبابة"… كلمات وألحان تجعلك في حضرة عالم مختلف.. عالم مليء بالحنين والذكريات وحكايا البحر والليل.. عالم يستمد نوره من أشعة شمس لا تنفك تداعب ما ظهر من الأجساد لنساء كانت أو لرجال، لكبار أو لصغار، لسمر أو لبيض، إلا من اختار أن يهرب من عدالتها.

حوالي ساعة وربع مدة الرحلة بين صفاقس وقرقنة تمر كمرور وميض البرق في ليلة شتاء عاصفة، والذهن شارد بين ثنايا الذكريات يستحضر سهرة على كورنيش "الرملة"، أو ربما حمام شمس على "شط بونوما"، وأحيانا ساعات انتظار طويلة على أمل توقف سيارة تقلك للمنطقة السياحية بـ "سيدي فرج" لقضاء يوم مع الأصدقاء في أحد نزلها التي لا تشبه بقية النزل في أي مدينة.. وعلى صافرة اللود المنذرة بالوصول إلى محطة "سيدي يوسف" قد تستفيق من مشاهد ليلة مع "الجنّ" قرب "مصنع القرنيط" المهجور بـ"العطايا".

تنزل من الباخرة وسط الزحام لتجد نفسك على طريق ضيقة ورحبة في آن، فمرحبا بك في "جزيرة المستقبل" رغم أن ما من إنجاز يحيلك إلى رغبة في التطوير إلا ما رحم ربي، كمشروع إعادة تهيئة قنطرة "أولاد يانق" الذي انطلق منذ اكثر من سنة ولم ينته بعد، ولعل لتوقف الاشغال فترة الحجر الصحي الشامل سبب في ذلك، إلا أن المسالك المؤدية إلى الشواطئ مازالت على حالها لم تتغير نفس الحفر، أو ربما ازداد عددها، تستقبلك لشواطئ تغطيها طحالب البحر التي وإن كثرت لا تعتبر مقلقة للمصطافين بقدر الأوساخ التي يخلفها البعض وراءهم دون حسيب أو رقيب.

"بيلاز" و"القرّابة" و"المرسى" و"سيدي في النخل" و"بونوما" وغيرها من الشواطئ على امتداد جزيرة قرقنة العائمة، علاوة على طابعها الخاص والمختلف عن بقية شواطئ المدن الساحلية، كلها أماكن غابت عنها المشاريع الكبرى التي قد تجعلها قبلة للسياحة الداخلية والخارجية، عدا بعض المبادرات الفردية لأبناء الجهة من خلال تشييد استراحات من خشب وجهر ما علق من طحالب وفضلات قبالتها وعلى جانبيها لتصبح قبلة للعائلات والأفراد لقضاء يوم مميز بأبسط الامكانيات.. فهكذا هي قرقنة، متعة الصيف وكل الفصول فيها نابعة من بساطتها…

هناك في البحر كما في كل الجزيرة، هدوء يخفف عنك، ولو لحين، أثقال الحياة وهمومها وصخبها مهما كان مأتاها.. بحر ملؤه الصفاء والهدوء، حتى هدير الموج فيه هادئ.. مياهه الدافئة إذا استلقيت على ظهرها وأغمضت عينيك تتجلى من حولك مخلوقات من نور ترفعك على أجنحة شفافة وتنقيك من كل الآلام والخطايا…

ومثلما تستطيع أن تبهرك "بلاد البحر والحوت والنخيل العالي" في وضح النهار، فهي ساحرة في الليل بكل تفاصيله.. بهدوئه في أوله وصخبه النابع في وسطه وحتى الفجر، من سهرات العائلات والأصدقاء في المنازل وعلى الشواطئ ومن إيقاعات "الطبَل" في الأعراس ومن أصوات محركات "شقف" أو "فلوكة" يستعد أصحابها للإبحار والظفر بما "يكتبه الله" من صيد لتجارة أو لاستهلاك شخصي.. فالليل في الجزيرة ممتع حتى ولو خيل إليك أن "جنيا" اعترضك يقال إنه يسكن مكانا مهجورا منذ عقود.

في قرقنة لو كنت طفلا أو شابا، وحتى عندما تصير كهلا أو عجوزا، لا بد أن تستمع لحكايا "الجن" الذي يسكن بناية مهجورة هنا أو هناك "من مليتة للعطايا"، وغالبا ما سينتابك الفضول لاستطلاع الأمر بنفسك، وان اخترت لذلك الوقت المناسب فلا بد أن يكون في آخر أيام عطلتك لتبقى التجربة عالقة في الذاكرة، كما هي قرقنة صامدة بيابستها العائمة.. بنخيلها الشامخ.. بتقاليدها التي لا تموت.. بأناسها الطيبين.. وبهدوئها الذي لا يوصف بقدر ما يجب أن تعيشه.. قرقنة التي يعشقها الغريب مثله مثل القريب..

قرقنة يا بلاد أجدادي إليك مني فيض حب لا ينضب…

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.