يسرى الشيخاوي-
"الجلوة" من العادات التي لا تغيب عن الأعراس في صفاقس، عادة تبدي فيها العروس كل زينتها قبل أن يلقوا عليها "الطلسة"، طقس يختلي فيه الحبيبان عيناها في عينيه، تتماهى أنفاسهما ويتراقص قلبيهما على إيقاع نبضات الفرح.
وتحت قطعة القماش، ينسج العروسان حكايا لا تتكرر، ويسترقان لحظات الحب وسط أعين كثيرة، ولكل طريقته في التعبير عن الحب بين من يكتفي بنظرة وبين من يختزن انفاس حبيبه ومن يسترق قبلة.
خشوع، حياء، وربما تمرّد وثورة وبعض من الحركات الطفولية، كثيرة هي الاحتمالات التي تؤويها الخلوة بين العروسين، ولكن الأكيد أنها من اللحظات التي تدل كالوشم في ذاكرتهما.
على إيقاع الفرح والموسيقى، يكون للقاء الحبيبين معنى آخر وتحت تلك الستارة يمتد بينهم رباط الوصل وقد يتسرب الحياؤ أو الشقاوة ويسرق أحدهما قبلة وبترشف الحب على عجل.
وفيما نظرات العروسين تتلاقى في ذلك المجال الذي أوجده طقس "الجلوة ، تتطلع كل الأعين ناحيتهما ترصد الحركات والسكنات وقد تتعالى قهقهات الحضور أحيانا ان تتدانى العروسان.
هي خلوة سرية، العروسان وحدهما يفقهان كنهها ومعناها هي أعمق من أي يفتي فيها البعض أو يقحم فيها البعض الآخر انوفهم، عادة توارثتها العائلات وتختلف تفاصيلهاغ من عائلة إلى أخرى ولكنّها تظل عنوانا للفرح والحب.
في ذروة الالتحام بين الأرواح الذي تختلف تجلّياته بين العشّاق، تهز " الماشطة"، تلك المرأة التي تزرع الفرح بصوتها، القماش لكي تقطع خلوتهما حتّى أن البعض يركن إلى احمر الشفاه ويقتفي أثر على خد العريس.
"الجلوة الصفاقسية" أكثر من عادة و أكبر من تلك التعليقات الموجعة التي غصّت بها مواقع التواصل الاجتماعي بعد تداول فيديو لعروسين تبادلا القبل خلال هذه العادة، وبعيدا عن كل التقييمات التي قد تختلف من بيئة إلى اخرى ومن فرد إلى آخر فإن العروسين لم يرتكبا جرما في حق الآخر.
تعبيرات الحب مختلفة وتقديرات القبلة أيضا، ومن الناس من كانت باردة على قلوبهم ومنهم من نثرت فيهم بعضا من الجحيم ولكن التعليقات السطحية والاخلاقاوية تظلّ دائما على حالها، وأساليب الإساءة والتجريح تتكاثر يوما بعد يوم.
"ماتحشمش" "ماأقل حياها" "ماعادش حشمة" "بوها وامها حاضرين عيب" "ما نجموش يصبروا" بعض من التعليقات التي رافقت فيديو العروسين وكانت في أغلبها ذات بعد ذكورية تكاد الأنثى ترجم فيه.
ربّما الإجابة على هذه التعليقات حاضرة في الفيديو لكن عشّاق رياضة الفتوى في كل الأمور لم ينتبهوا إليها، ألم يشاهدوا تلك المرأة التي قدمت إليهما وعدّلت قطعة القماش لتحجب خلوتهما عن الأعين.
ثم لماذا تقوم الدنيا ولا تقعد لقبلة ولكن الصمت يعم على بعض القضايا الّأخرى، لماذا يهلل البعض للعنف ويطبعون معه ولكنهم ينصبون المشانق لعروسين قبلا بعضهما من تحت حجاب؟
لفيست كل العادات سارية على كل الأفراد وإلا لما كان كل هذا الزخم منها وحتى العادات نفسها لا تمارس بالطقوس ذاتها فالأمر مزيج من التنشئة ومن التمثلات ومن الخلفيات التي يحملها الأفراد، قد تعبدو لك القبلة تصرفا مشينا وغير أخلاقي ولكن غيرك يستسيغك.
وإن بدا لك فعل التقبيل "غير أخلاقي" يمكن ان تبدي رأيك دون أن تناقض نفسك وتنصّبك ناطقا باسم الأخلاق والحياء،وان كانت عادات كثيرة قد تدعو إلى الخجل بل إنها تنتهك الكرامة الإنسانية من ذلك برهان "شرف" الفتاة وعفّتها الذي ينتظره أهلها عند الباب على شاكلة نقاط دم على رداء أبيض.
كثيرة هي العادات المخجلة، ومنها أيضا تلك الندوب التي تحملها ركبة الفتاة قبل بلوغها ويسيل دمها وتغمسها بالزبيب وتلتهمه لتحرس غشاء بكارتها، هو عنف يمارسه البعض على النفوس قبل الأجساد، عنف يتجلّى في تقريع الآخر ورميه بنعوت موجعة لأنه أتى فعلا لم يعجبك.
وبعيدا عن جدل العادات والتقاليد التي ظل بعضها ثابتا ومتكلّسا وتغير بعضها الآخر، ما أجمل القبل وما أحلى القبل التي قال فيها ابن الساعاتي " قبّلتها ورشفتُ خمرة ريقها فوجدت نارَ صبابةٍ في كوثر".
 
 
 
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.