بؤس لـ”فرانكو”.. وقفة أمام تونس العارية

 يسرى الشيخاوي-

 هل خبرتَ يوما معنى الوقوف أمام وطن عار؟ هل فكّرت أن تلامس زواياه القصيّة؟ هل حاولت أن تعدّد جراح سكّانه وأحلامهم المنسية؟ هل جرّبت أن تفتح أبواب الوجع على مصراعيه وتدكّ أصابعك في ندوب لا تلتئم؟ قد يؤلمك مجرّد تخيّل الأمر وترهبك المحاولة ولكن "فرانكو" فعل ووقف أمام تونس العارية يجول بين تفاصيلها الموجعة ويبث لها شكواه منها.

هي ليست شكوى ذات متألمة بل هي امتداد لوجع وطن نخره سوس السوء وزيّن الألم ثناياه، هي شكوى تحاكي نبض قلب فرانكو وسريان الدم في شرايينه ألقها وألفته حتّى سكنت صوته ونظرات عينيه، شكوى تتخطّى كلمات وألحان أغنية "بؤس" التي تسقط أوراق التوت عن الزيف والوعود الواهية.

 وليس أشد بؤسا من ان تفقد ذلك الشعور بالانتماء للوطن، وليس أكثر ألما من أن تيقن أن وطنك سيلفظك في الوقت الذي تبحث فيه عن معنى الإيواء والاحتواء، وليس أشدّ أذى من أن تعيش على أرض توشحها المطبّات وتغزوها الوصوم، أرض لا سماء لها.

وأنت تجول بروحك وفكرك ووجدانك بين معاني كلمات أغنية الراب " بؤس" تحضر كل مشاعرك المتناقضة وتواسي الدمعة الابتسامة وتطلق الثورة صرخات مكتومة تنصهر مع أنين الحيف وينزف الأمل على حافة الوجع وتهمس الأرواح الثائرة "هنا باقون".

"نفس الديسك اللي يدور ومخاخنا سارحين.. نفس التركينة اللي لمت والعينين محوّقين.. نفس الغصة في القلب والعروق الذابلين.. نفس المخ اللي تعب والأحلام الميتين.. بلادنا تقول سفينة يتبادلو عليها الرياس.. قتلونا وعملولنا دفينة وخذوا عزانا ولباس.. قالولنا الحكاية قديمة برا عيش في بلاد الناس.. كفنا وشريناه بيدينا وموج البحر اللي ما رحمناش"، كلمات بسيطة تحاكي الواقع بل تعريه وتشرّحه وترشّ الملح على جراح مفتوحة.

هي كلمات تختصر الواقع في بلد يتواتر عليه الحكام ولكن الوضع لا يتغير ولا يتبدّل، هي نفس "الماكينة" تعيد استنساح الموجود وتقتل كل رغبة في منشود مغاير له، وفي العيون التي أعياها السهر والعروق التي جفّت من فرط الانتظار تسكن المقاومة، مقاومة السوداوية وأفكار الموت التي تتناسل من رحم التهميش.

حكايات كثيرة ترويها هذه الكلمات العميقة على بساطتها، من تنصّل الدولة من مسؤولياتها وصولا إلى سفرات الموت حلما في النعيم الواقع في الضفة الأخرى من البحر، حكايات عن أحياء على قيد الموت.

ومن الموضوعي إلى الذاتي، تحملك كلمات الأغنية، وبعد الحديث عن معاناة مواطنين وقفوا على قبور أحلامهم الميتة ينتقل "فرانكو" إلى الحديث عن نفسه وعن معاناة شخصية قد تجد نفسك في تفصيل من تفاصيلها.

"نكتب في الظلمة شكون فيكم اللي حس بوجوعي.. الحروف والليعة ستيلو حبار وهي دموعي.. ذلم وقهرة قعد مخبي بين ظلوعي.. نهار اللي نهجر ما تفرحش نهار برجوعي" كلمات يتسلل اليأس من بين حروفها، وبين الحرف والحرف يسكن وجع تخفف الكتابة وطأه.

وكل كلمة في الأغنية تعادل عمرا من الوجع، وجعه تعمّقه نبرة صوت "الرابور" وهو يجلد وطنه الذي حمل علمه على كتفيه ذات حفلة، ولكنه لم يلق منه إلا الحزن وركاما من الغبار يعلو قلبه وروحه.

من الحديث عن حقه الضائع كأشياء كثيرة في تونس، يعود بك "فرانكو" مرة أخرى إلى الموضوعي وتنساب كلماته كالرصاص والنبال فتدمي روحك مع كل رواية وجع جديد، وجع يسكن بين الروح والأضلع.

"أنا الفنّان اللي حقروه وحقو مظلوم.. أنا عمر اللي قلتولوا تعلّم عوم.. أنا كل مرا ماتت وتقلب بها الكميون.. أنا قلت الحق وباقي في حبسط مظلوم.. انا المريض اللي مالقاش دوايات.. أنا ولد الريف اللي قلتو جاي من الجبولات.. أنا البطال اللي قريت لين حلمي مات.. أنا الثورة اللي لتوة لا بدات"، هي ليست مجرّد كلمات، هو توصيف لواقع يربض فيه الموت في كل الزوايا وتحنق فيه السوداوية كل حالم بالتغيير.

وانت تلاحق حروف الأغنية ترتسم أمامك صورة عمر الذي مات لأنه لا يحسن السباحة و صور شاحنة الموت التي صبغتها دماء نساء السبالة ذات حادث، وصور آلاف العاطلين عن العمل وعن الحلم وصور شهداء بذلوا دماءهم من أجل الشغل والحرية والكرامة، فأوجد الحكام صورا أخرى للبطالة والقمع وانتهاك الحقوق.

هي موسيقى الرفض، تملأ الفراغ السحيق بين المواطنين ودولة استقالت من واجباتها في أكثر من مناسبة، هي موسيقى تتولّد منها أسئلة لا تموت وأجوبة لا تولد وسط مخاض يزعزع ثنايا رأسك وتعم الفوضى حواسّك وأحاسيسك.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.