يسرى الشيخاوي-
نغمات "ديدجيريدو" تخلقها أنفاس الموسيقي محمّد البرصاوي فتحاوطك بهالة روحية وهي تخترق قلبك قبل أذنك ولا يحاكي سحرها إلا ذلك الصوت الأنثوي النابع من رحم الأرض وعمق الماضي، صوت يردّد "هزي حرامك وخمريك على وشمتك هبلتني" فتؤنس تفاصيله طريقك إلى قفصة حيث رسم المخرج عبد الله يحي ملامح حكاية كل شيء فيها حي.
بين ثنايا قفصة، في عناق أرضها وسمائها وتفاصيلها المتناقضة، يكتب عبد الله يحي إلياذة عشق عنوانها "الصرار في رمضان"، فيلم وثائقي برؤية فنّية مارقة عن السائد والمألوف يتماهى فيها الإنساني بالوجودي.
"الصرار في رمضان" الذي عرض على الجزيرة الوثائقية يروي حكاية رضا كردي ذلك الإنسان الذي جبل على حب الموسيقى والحياة واختار سبيلا قد لا تروق للآخر لكنها ترسم البسمة على شفاهه وتُشعره بوجوده في هذا العالم.
السبيل التي اختارها بطل الفيلم تجعله يحاكي " الصرار" في قصة الصرار والنملة فالناس لا يرون إلا رجلا يركب درّاجة هوائية وسمها بلمساته وأعدّها كي ينسلخ عن العالم من حوله بسماع موسيقى تراوح بين كل التلوينات.
فيما تكاد تثقب الشاشة بعينك لتتفحّص ملامح "الصرار" كما رسمها عبد الله يحي لا كما علّموك وأنت صغير، تتساءل عن "النملة" عن تلك الأنثى الحاضرة في الفيلم بين نوتات الموسيقى وكلمات أغنية "هزي حرامك".
وحينما تسكت الموسيقى المنسابة بشغف وحب يتكلم عمر الطفل الصغير راويا بصوته الوديع قصّة "الصرار والنملة"، وعلى إيقاع صوته يجول والده شوارع قفصة ناثرا الحب والموسيقى وزاده ابتسامة وشعاع أمل لا ينطفئ من عينيه.
ملامح رضا كردي كما نحتتها الكاميرا آسرة ساحرة، بشرة فيها بعض من لون القمح وبعض من التراب الذي ينبت السنابل، ومحيا سكنت بصمة الشمس في ثناياه وأثر السنين ووجع الواقع وحب الحياة.
وأنامله الرفيعة التي تلامس النحاس الذي يجمعه من بقايا حظائر البناء ويبيعه تشي بأنّه لا يكون حيّا بما يكفي إلا حينما يمتطي دراجته ويطلق العنان لموسيقاه التي اختارها لتلبي كل ذائقة، ولكن هي إكراهات الواقع تدفع المرء أحيانا إلى فعل ما لا يحب حتّى يعيش.
وفكرة دراجة هوائية زينتها الحب والموسيقى، استلهمها رضا كردي من فيلم هندي ومنذ ذلك الحين وهو يبحث عن سبل لتكون له ميناء سلام أو ملاذا من كلمات زوجته التي لا تعجبه أحيانا، بل إن وقع خطابها أشبه بوقع الخطاب الذي تلته النلمة على الصرار إذا ما أتاها راغبا في بعض القمح.
فعلا زوجة رضا كردي تحيل إلى نشاط النملة فهي دؤوبة تشكّل من العجين كريات وتبسطها بكلتا يديها فتصنع منها خبزا أو هي تشكّل منها دوائر إذا ما صنعت "اليويو" كما أن لسانها لا ينفكّ يكيل النصح لزوجها الذي يبتلع النصائح حينا ويختنق بها أحيانا.
بين حكايا "الصرار" و"النملة" وعلى ايقاع تعارض رؤاهما وتمثلاتهما للحياة يعلو صوت الطفل "عمر" قارئا بقية القصّة، ومن تفاصيل منزل "الصرار والنملة"، وأوانه وقسمات وجهيهما ونظرات طفليهما فريال وعمر تنتقل كاميرا المخرج من فضاءات ضيقة إلى فضاءات واسعة لا تعترف بحدود كحلم رضا كردي.
أغان من المدونة التونسية وأخرى طربية وصوفية وغيرها من الأغاني التي يزين بها "الصرار" شوارع قفصة في شهر رمضان وبقية السنة، فيعترضه البعض بالبسمة ويقابله آخرون بالتجهم، ولكن حسبه تفاعل طفلة صغيرة مع موسيقاه فتضم يديها إلى بعضهما مصفقة ومبتسمة.
وأحيانا ينزل "الصرار" من عرشه ليرقص على وقع أهازيج تتغنّى بها نسوة من قفصة وتعلو أصواتهن بالزغاريد، هي السعادة في تفاصيل صغيرة تلاحقها عين المخرج طيلة الفيلم، من لعب عمر بالكرة رفقة أترابه إلى اجتماع العائلة على طاولة الإفطار بعض أذان المغرب إلى حديث "الصرار" مع بعض الأشخاص.
ورحلة التفاصيل التي ينسج منها المخرج ملامح فيلمه، تتواصل برحلة جديدة خاضها رضا كردي حينما قرر التوجّه إلى المندوبية الجهوية ليضفي على مشروعه الحياتي بعدا آخر بمشاركته في تظاهرات ثقافية.
"صاحب السعادة" كما سمّى نفسه في لقائه بالمندوب الجهوي للثقافة لم يعد خاوي الوفاض وكانت دراجته وسيلة الدعاية لمهرجان الحارة حية، وكانت ابتسامته وهو يشاهد ابنه "عمر" على الركح مع "الساحر" في إحدى فقرات البرنامج صارخة غير قابلة للتأويل ولا التفسير.
وحينما يوشك الفيلم على النهاية، تستمع "النملة" إلى بعض الموسيقى ويستغرب " الصرار" فتبدّد العجب على محياه ويتحول كيس مصنوع من بعض الأقمشة يكيل عليه "عمر لكماته" إلى كيس ملاكمة حقيقي أهداه إياه والده.
وبين لهب النار التي يستوي عليها "الطاجين" حيث تلقي زوجة رضا كردي عجين الخبز ونور الشموع وخيوط الضوء المرتسمة في السماء والابتسامات المبعثرة والأصوات الملوّنة يصنع المخرج كرة من الضوء كفيلة بأن تبدّد سواد الواقع.
وأوّل الضوء ينبع من "الصرار" الذي يعتقد في نفسه وفيأنهم سراج لأحدهم وأنه لا ينبغي أن ينطفئ مهما ضغطت عليه كلمات "النملة"، فمن تسبّع بحب الحياة سيعبّد طريقه بالأمل وإن أدمت الأشواك قدميه.
وفي الفيلم الذي تتماهى فيه البساطة بالعمق، وتكاد الجمالية تنطق من بين تفاصيله، يثبت عبد الله يحي مرّة أخرى أنه من طينة مغايرة وأنه لن يحيد عن دين الحرية والفن والجمال وأنه سيظل يبحث عن ذاته وذوات الآخرين في العلاقة بين الضوء والصورة وبين الصوت والكلمة.
وأنت تمر من مشهد إلى آخر تكاد لا تشعر بالانتقال لفرط الحبكة في السيناريو، وتبدو لك الكاميرا حرّة طليقة تبحث عن الأصوات والصور حيثما ذهبت، فتسافر بين وقع الأقدام على الأرض وصوت الأغاني منبعثا من الدراجة وصوت الضحكات الصامتة.
ولأن المخرج لا يلاحق الأصوات بل يلاحق القلوب، فأن عمله بدا آية على قدرة الحب في تحريك الإبداع وفي سبر أعماق الإنسان، فـ"الصرار في رمضان" ليس مجرّد توثيق ليومي عاشق للموسيقى بل تأويل فني لتساؤلات عدّة عن الذات وعن الاختيار وعن المقاومة والصمود وعن نظرة الآخر.
وإن كانت حياة "الصرار" لا تخلو من الوجع فإنه كان حيا بما يكفي لمواجهته ومواجهة ذلك الوصم الذي قرنته حكاية "الصرار والنملة" به حتّى أنه طلب من ابنه تعديل النهاية ولكنه رفض أن يمس من قدسية الخرافة.
في الواقع نجح الفيلم في طمس تلك النظرية السطحية للصرار التي قد تتبادر إليك في الأوّل ذلك أن المضي في سبيل تحف به اللاءات لا يخلو من عناء وأن تسلم الأمر لروحك لتجذبك إلى ما تحب أمر يستحق العناء، فالروح لا تضلل تابعها.