النواب والقذف.. سوريالية زمن الكورونا

 يسرى الشيخاوي-

في الوقت الذي ترزح فيه تونس تحت الفساد في تجليات مختلفة زمن الكورونا، يطل عدد من نواب الشعب على المواطنين بمبادرة تشرّع تكميم الأفواه، في مشهدية سوريالية عنوانها أخلقة الحياة السياسية والاجتماعية.
ربما أغوت الكمامات التي حالت دون الأفواه والفيروس باعث مشروع القانون إلى إخراس الألسنة لكنه لم ينتبه إلى أن ذلك الزمن قد قُبر وأن الحجر الصحي الشامل يعزل الأجساد لكن لا يسكت الاصوات الناقدة.
والمشهدية السوريالية  في واقعة القذف تنطلق  من باب تجريمه دون محدّدات وصولا  إلى محراب  تسليط عقاب مرتكبيه بالسجن مدّة عامين وبخطايا مالية تتراوح بين عشرة آلاف دينار وعشرين ألف دينار.
وان كانت جرائم القذف منبوذة وتعرض فاعلها إلى العقاب على معاني الفصول  128 – 245 – 246- و 247 من  المجلة الجزائية فإنه من غير المنطقي إفرادها بمشروع قانون يجعل من نواب الشعب مواطنين فوق الرتبة.
والسوريالية تسكن في كل تفاصيل المبادرة التشريعية، إذ لا يقدر العقل على استيعاب قدر الخطّية المالية وكأن تونس بلد كل سكّانه يتقاذفون الملايين فيما بينهم، أو كأن لا صنيع لهم إلا نقد النوّاب وانتقادهم، ثمّ إنهم ينقدون أشخاصا من المقترض 
وقدر الخطّية المالية يبعث على الضحك فكأننا نعيش في بلد اغلب سكانها مليونيرات ، ثم إن المواطنين الذين ينقدون النوّاب أو ينتقدونهم إنّما لصفتهم وليس لحسابات شخصيّة دون احتساب المعارك السياسية القذرة، ومن عرض نفسه إلى الأضواء يجب أن يرضى بقانون اللعبة وماعليه إلا أن ينتبه إلى خطواته.
"أخلقة الحياة السياسية والاجتماعية "، هي يافطة المبادرة التشريعية التي أطلّ بها مبروك كرشيد ومن والاه على الشعب، وعن أيّ أخلاق وعن أي أخلاقيات يتحدّثون في مجلس لا تمرّ فيه جلسة عامة دون شجار وصراخ ومناوشات، عن أي أخلقة يتحدّثون والمجلس "بؤرة" تنابز وتراشق بالتهم بين المختلفين.
ثم أي مثال قدّمه النواب للشعب حتّى يجرّموا ما يكتبونه على مواقع التواصل الاجتماعي تحت مسمّيات زائفة واهية أسقطت الأقنعة عن الكثيرين حينما هب تونسيون ممن لا يرضون المساس بمكتسبات الثورة قيد أنملة ولا يرضون بوضع اليد على حرّية التعبير تحت أي ذريعة.
وقدر الخطّية المالية وحده يجعل الناظر إليه يتفكّر فيما فعل النوّاب من أجل المهمّشين والمفقّرين وماذا رصدوا لهم من اموال في مشاريع قوانين اقترحوها، وماذا فعلوا لتونس وهي ترزح تحت عبء الفساد والاحتكار في ازمة الكورونا.
الإجابة سهلة، هم لم يفعلوا شيئا باستثناء بعض منهم يحتكمون إلى ضمائرهم، ولكنّهم في المقابل لم يتوانوا عن الاتيان على نقطة ضوء من زمن الثورة هي حرّية التعبير، وأرادوا السلطة التشريعية سيفا يسلّط على رقاب من تسوّل له نفسه أن ينقد نائبا.
وفي المبادرة إحالة إلى عدم رضا صاحبها ومن سار على دربه على ماورد في المجلّة الجزائية ولو كان الأمر بيده لطالب بتسليط أقسى العقوبات حتّى لو وصل الأمر حدّ قطع الانترنت على الجميع.
وإن حاول مبروك كرشيد جاهدا نفي عنوان التضييق على الحريات وتكميم الأفواه عن مبادرته فلن يفلح في ذلك والمبادرة مفضوحة لا غاية منها سوى وضع عسسة على الفضاء الافتراضي وسرقة حرّية شعب بعد ان سرق آخرون ثرواته وغذائه.
وفي الوقت الذي شهدت  فيه دعوة رئيس الحكومة الياس الفخفاخ إلى تفويض الحكومة لسدّ الثغرات التشريعية في الحرب على الكورونا شدّا وجذبا وتعطيلات بدعوى الخوف من "التغوّل" والتضييق على الحرّيات، يستعجل النائب مبروك كرشيد ومن والاه في النظر في هذه المبادرة.
وهذه الفعلة تعرّي ازمة الأولويات التي تغرق فيها البلاد، إذ كان من المفترض أن تنكب كل الجهود على محاربة فيروس كورونا وما تولّد عنه من مظاهر جديدة للفساد على غرار الاحتكار وقتراح سبل جديدة للخروج من الأزمة.
وفي وثيقة شرح الأسباب تبدو النقاط التي أُارها النائب سطحية جدّا فهو يصوّر الجرائم الالكترونية غولا يترصّد العملية الديمقراطية والحال أن الامر يتعلّق ببعض الجرائم التي لا تحيل إلى تفشّي الظاهرة، لكن الفساد والمحسوبية والرشوة والصفقات في الغرف المظلمة أشدّ خطرا على الديمقراطية في هذه المرحلة وإن كان من الضروري التصدّي للجرائم الالكترونية إن وُجدت.
والمبادرة التي جاءت لتحمي الديمقراطية من العبث، مثلما هو مدوّن في وثيقة شرح الأسباب، إنّما هي العبث في حدّ ذاته وهي التي تسعى لأخلقة الحياة السياسية والاجتماعية على مذهب "تكميم الأفواه".
والمشهدية السوريالية لن تكتمل دون غزوة "قذف" روّاد مواقع التواصل الاجتماعي لمبادرة "القذف"، حتّى تراجع نواب عن إمضائهم على مشروع القانون الذي يضيّق على الحرّيات وبين من أمضى لظن خيّبته المبادرة ومن أخذ على حين غرّة سحب صاحب "الفتوى" فتواه بعد ان أجهضتها أصوات حرّة.
وكم هو سوريالي أن يمضي نائب شعب على مبادرة تشريعية دون ان يطّلع على تفاصيلها وكم هو سوريالي أن يسحبها باعثها الأوّل رغم قناعته به، وكم هو سوريالي ما يعيشه الشعب التونسي هذه الفترة، ولكل داء دواء يستطاب به إلا "كورونا" السياسة أعيت من يداويها.
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.