“ممّو وشحيمة”.. كوميديا بعبق الزمن الجميل

يسرى الشيخاوي-
هاموا بالمسرح وهام بهم، واختال الركح بوقع أقدامهم ونسق أنفاسهم، وتماهت أصواتهم مع صوت الخشبة إذ ساروا عليها، الفن الرابع ديدن يلازمونه ودين يعتنقونه مادامت كل السبل تؤدي إلى الركح.
هم مسرحيون، محملين بالصخب والشاعرية والحماسة والحنين والأمل وكل المشاعر الإنسانية المتداخلة والمتناقضة، مشاعر طوعوها لنسج ملامحم كوميديا بعبق الزمن الجميل، هم الثلاثي لسعد بن عبد الله وكمال التواتي وصلاح مصدٌق الذين بثوا بعضا من أنفاسهم في صياغة النص وزينوا بأدائهم ركح المسرح البلدي بالعاصمة في لعرض الأول للمسرحية الكوميدية "ممّو وشحيمة".
بلغة مسرحية لا تخلو من ايحاءات ولكنّها بعيدة عن الابتذال رسم الثلاثي آفاقا وضّاءة لكوميديا كان فيها الفن تعبيرة عن أوجاع سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، أوجاع يعيشها الشعب التونسي منذ سنوات ولكنّه يغمض عينيه عن مكامنها.
على ركح المسرح البلدي، قبالة مقاعد غصّت بجمهور أغواه ثلاثي المسرحي بحضور العرض، كان بعث جديد للواقع الخانق والمبتذل في أحيان كثيرة، واقع صاغه الثلاثي في نصّ فكرته تعود لكمال التواتي ولكنّ تفاصيله مستلهمة من ثلاثة تجارب معتّقة.
وإن كان النص يحتاج إلى المراجعة في بعض مواضعه بما يجعل العمل المسرحي أقلّ طولا، ذلك أن الإطالة في بعض الأعمال الفنية قد لا تخدمها في بعض الأحيان وتكون منافذ لتسرّب الملل لنفوس الجمهور.
بعيدا عن مدّة العرض التي تظلّ نقطة جدلية قد يختلف في شأنها البعض ويلتقي عندها البعض الآخر، فإنّ فكرة "ممّو وشحيمة" التي اوجدتها قريحة الفنّان المسرحي كمال التواتي تبدو متفرّدة إذ يسائل العمل المسرحي الواقع من خلال الفن ويضع الفرد في مواجهة مع مجتمع عار والمواطن في مواجهة سلطة تمتص كيانه.
والعمل المسرحي الذي يقطع مع التهريج يعيد للكوميديا بعضا من ألقها إذ أنه لا يتعلّق بالإضحاك فقط بقدر تعلّقه بانتقاد ظواهر اجتماعية وسياسة وثقافية واقتصادية، وفيه صارت "المأساة" ملهاة تبعث على الضحك.
بأداء مبالغ فيه في بعض المشاهد، بما يخدم سيرورة النص المسرحي والرسالة المراد إيصالها إلى الجمهور، يشرّح الثلاثي المسرحي اليومي ويلامس مكان الداء فيه ويفتك الضحكة من الجمهور حتّى تعانق القهقهات الزخارف التي تزيّن سقف المسرح البلدي.
من الفكرة إلى العنوان فالنص المسرحي والسينوغرافيا وأداء الممثلين، كانت هواجس المواطن حاضرة بكل ثقلها حتّى انّك تستشعر وكأنها جاثمة على صدرك ويحدث أن تختنق حينما تبلغ الكوميديا السوداء ذروتها.
وقد تلبث برهة من الزمن وأنت تفكّك رموز العنوان ولكن ما إن يلتقي الفنانان المسرحيان كمال التواتي "ممّو" وصلاح مصدّق "شحيمة"  على الركح ويتخاطبان حتّى ينجلي الغموض فالعنوان ليس إلا لقبي الصديقين الذي جمعهما الفن التشكيلي وقاربت بينهما دروب الحياة.
وحينما يتخاطب الصديقان بلقبيهما يأخذك مسار التأويل إلى مظاهر التكلّف وإلى العلاقات العمودية بين المسؤولين والمواطنين وإلى التباعد والتجافي بين أفراد المجتمع الواحد وبين "العامة" والنخبة، حتّى أن الهوة بينهما أغرقت في الاتساع حتّى ابتلعت النخبة وارتسم على حافتها سؤال "أين النخبة اليوم؟".
وعلى إيقاع حكايا ممو وشحيمة ينهمر السرد المسرحية حتّى يقترب من حالة الهذيان ويغرق الكل في متاهة رسمت الشخصيات حدودها، متاهة تشبه تلك اللوحة التي يداعبها " ممو" بريشتها فتتولّد عن المتاهة متاهات اخرى تتخذ في كل مرّة هيئة جديدة.
وفي ملامح مبهمة لفنانين تشكيليين تتجلّى الصراعات التي يخوضها يوميا من اختاروا درب الفن، صراعات من أجل البقاء والحياة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي ويتشابك فيها الواقع والخيال لتترتسم في كل مرّة وضعية كوميدية جديدة.
وإن كان العنوان يحيل إلى أداء ثنائي وهو ما تجلّى في بداية العرض المسرحي، إلاّ أن صوت لسعد بن عبد الله الذي يرشح وقارا وشموخا ينبعث من خلف لوحة تزيّن الركح وكأنه صوت الضمير النابع من أعماق الشخصيات.
وكلّما تكلّم لسعد بن عبد الله "حمّودة" التقى الثلاثي على الركح وتماهت أصواتهم وسط امتداد المتاهة فتتشابك الأحداث وتتسارع على إيقاع نغمات البيانو الذي يعدّل "حمّودة" مفاتيحه ملامسا مرّة بياضه ومرّة سواده في إحالة على الواقع الذي يتعاقب فيه النور والعتمة.
 وعلى نسق الإعداد لمعرض فني مشترك بينهما، يثير "ممّو" و"شحيمة" موضوعات كثيرة منها قيمة العمل ودور النخبة في المجتمعات وقيمة الفن في صقل وعي الأفراد، موضوعات انطلقت من الشخصي لتمتدّ إلى الجماعي.
ولكسر الرتابة على الركح لجأ المخرج لسعد بن عبد الله إلى خلق شخصية "فريدة" التي قد تكون مرادفا للسلطة بما تحمله من أنانية ونفوذ وتمعّش وركن إلى متممات ركحية بسيطة تتظافر مع "تعقيد" النص لتصنع كوميديا تدفعك إلى التفكير والتأويل.
وإن كانت مسرحية " ممّو وشحيمة" أثارت قضايا تصب في كل المجالات بطريقة تفتكّ منك الضحك أحيانا وتوجعك احيانا أخرى لأنّها تعرّي حقيقة الوضع في تونس اليوم، فإنّها أيضا دعوة إلى التغيير مادام التغيير ممكنا.
والتغيير في المسرحية يتجلّى في ظهور "حموّدة" على الركح بعد لينظم إلى الثنائي على طاولة العشاء، وكأن في ذلك تذكرة بأن الخلافات بين أبناء الوطن الواحد وإن بلغت ذروتها فإنهم يجتمعون عنده أنّى اقتضى الأمر.
وبين الإضحاك والتفكير والتأويل وغمز الجمهور برسائل تجانب المباشرتية، تجلّت ملامح عرض كوميدي يعود بالذاكرة إلى المسرح الهادف، عرض كوميدي راهنت عليه شركة منتصر للإنتاج في زمن طغى عليه التهريج والسطحية والاستسهال.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.