“صفقة”.. أو الرغبات المتأرجحة بين الواقعية والشاعرية

 يسرى الشيخاوي-

 دوامة من الأفكار تشدّك إليها وتغرقك في تفاصيلها السرمدية، تختنق أنفاسك ويحتبس الدم في عروقك وتعزف دقّات قلبك على إيقاع طقطقة عظامك وأنت تحاول أن تتحرّر من أسر كرسي يحاصرك من الجانبين.

في لحظة ما يتعطّل إدراكك وتتلاشى كل الرغبات من حولك إلا رغبة ملحّة في أن تفكّ أزرار كل الأقمشة المكبّلة لجسدك وتهدم كل الأسوار الهلامية التي ارتفعت أمامك دون إيذان، ولكن وقع خطوات مبعثرة على خشبة توشحّت جنباتها بقطن أبيض ينتشلك من حصارك.

ابتسامة مبهمة ترتسم على شفتيك غصبا عنك فلا تملك إلا أن تربّت على قلبك وتلقي بعينيك في العتمة، هناك حيث تتأرجح رغبات لا حصر لها بين الواقعية والشاعرية وتتصارع الشهوات على قارعة وجود يرتدي أحيانا وجه العدم.

 هي "صفقة" بين بائع وحريف، لكنّها ليست ككل الصفقات ففيها تباع الرغبات وتشترى، وفيها تتشيؤ المشاعر والأحاسيس، هي "صفقة" تثقب ذاتك فتنهمر الرغبات من بين الثقوب الكثيرة فتلاحقها ولكنّها تختفي في أركان الواقع المظلم.

على نسق حوار البائع والشاري تتجلّى ملامح ميثولوجيا مقتبسة عن نص "في عزلة حقول القطن" لـ"برنار ماري كولتيز"، ميثولوجيا تعرّي الإنسان وتحملك إلى عالم غير واقعي، عالم لا يقبل الاختراق منغلق على كل زواياه، رافض للنور والضياء وتعاقب الساعات، لكنّه ينبش في أعماق الذات يشرّحها ويستنطق رغباتها الموجودة منها والمفقودة.

نفسا تلو النفس، وآهة تعقب آهة، وخطوة تؤنس خطوة، تجول بين ثنايا "صفقة" نحت الممثلان غازي الزغباني و"سيباستيان أمبلار" ملامحها على خشبة فضاء "لارتيستو"، هناك حيث التحم الجمهور بالشخصيتين حتّى يخيّل إليك أنّ كلّ الرغبات تزاحمت في ذات المكان.

ظلام دامس وبرودة تتسلل من بين بقايا القطن الملقى على الأرض، أعمدة حديدية تزيد من ضيق المكان، مكان لا شيء فيه يحاكي الحقيقة سوى أنفاس البائع والحريف وصدى رغبات يراودها الأوّلى ويكبحها الثاني.

وفيما تجول يعينيك بين أجساد الشخصيتين على الركح، وتتأمّل تفاصيل الحكايات التي ترويها عن الشهوة والمتعة وعن الحياة وعن التناقضات، تحاول أن تستأنس بالظلمة التي لن تستغرق وقتا كثيرا لتصير جزءا من الحكاية التي أقحمتك فيها سينوغرافيا العرض وأدوات إخراجه.

كما الدمع يغادر الأعين بلا هوادة يفرج البائع عن رغبات كثيرة يغوي بها الحريف الذي يتنبأ بملامحها مسبقا فيسد كل المنافذ إليه حتّى لا يستسلم لها، ومع كل رغبة جديدة يهرب الإثنان إلى الأمام، هروب نحو آفاق مجهولة.

خطوات كثيرة بعضها مبعثرها وبعضها مرتب، وحروف أكثر تحكي عن البائع وعن الشاري وعن الأنا والآخر وعن الإنسان عموما، وعلى إيقاع الكلمات والحروف ترقص أضواء خافتتة أشبه بالطلمة ويغمر الضباب المكان.

ضبابية مدقعة تلفّ المكان والزمان و"السلعة" المعروضة على قارعة الصراع بين الرجلين، صراع يكسب "الصفقة" بعدا تراجيديا وآخر فلسفيا يتجلّى في الحديث عن الرغبات دون تحديد ماهية "الشيء" المعروض للبيع.

فكرة أم فعل، حقيقة أم وهم، لقاء أم فراق، نشوة أو شجن، قبلة او عناق، أنت لا تعرف محور الصفقة ولكنّك على يقين أن الأمر أعمق من مقايضة شيء بشيء بل هو جوهر الحياة نفسها الذي يتجلّى في تجاهل رغبة من بين رغبات كثيرة، هي الرغبة في الرحيل عن هذا العالم.

شخصيات بلا أسماء ومكان بلا عنوان وزمن بلا بدء ولا منتهى، وخوف يتجلّى في أنفاس مضطربة ونظرات مبعثرة ونبرات متوتّرة، و"صفقة" تقف في منتصف الطريق بين رجلين أحدهما واقعي جدّا والاخر شاعري أكثر مما ينبغي.

بائع متمرّد تعكس ملابسه تمثلاته للعالم حوله وشار تجيب بدلته الرسمية عن أسئلة كثيرة، يخطّان طريق البحث عن رغبة مفقودة منشودة، هي الرغبة الحقيقة في الحياة، حياة لا صراع فيها ولا تناحر بين الانا والآخر.

 "ماذا أريد" و"ماذا تريد" و"ماذا نريد من بعضنا البعض" أسئلة تتبادر إلى ذهنك وأنت تلاحق حركات الممثلين على الركح، تعدّ خطواتهما على الأرض وقفزاتهما نحو الأعمدة الحديدية في هروبهما من بعضهما البعض أو من الرغبة في الموت.

عنف وضحك وهستيريا ووجع كامن وبكاء على غير الطرق المألوفة، انفعالات كثيرة تنساب على الركح لتعكس أداء لافتا للمثلين أحدهما تونسي والآخر فرنسي، خطاب الأول باللهجة التونسية وخطاب الثاني بالفرنسية ولكنّهما منسجمان متناغما.

خيط ناظم حاك الممثلان تفاصيله فبدت اللغة مجرّد تفصيل أمام تماهيهما مع الشخصيتين وتكاملهما على الركح، حتّى أنّهما جسّدا حركية الرغبات التي من الممكن ان نلتقي عندها في نقطة ما من خلال حديث غازي الزغباني بالفرنسية و"سيباستيان أمبلار" باللهجة التونسية وكأنهما يفصحان بطريقة غير مباشرة عمّا يريده أحدهما من الآخر.

قطعا كلاهما لا يريد الموت ولكنّهما يريدان أن يعرفا ما يرده مكل منهما من الآخر، وفي النهاية المادية لـ"صفقة" التي لا نهاية لها في بعدها المعنوي يتضح أنّ البائع والشاري سواسية أمام البحث عن الرغبة في الحياة، التي تبحث عنها أنت الذي تشاهد العرض.

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.