20
يسرى الشيخاوي-
في الذكرى التاسعة للرابع عشر من شهر جانفي، ذلك التاريخ الذي هرب فيه رأس النظام ذات ثورة وانجلى ليل النوفمبرية وحل صبح جديد لكنّ نوره لم يدم طويل، تجلّت بعض ملامح الثورة على ركح مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة وكان عرض "نور " حمّال أمل وحلم بجيل جديد يعشق الحياة والفن.
قبل الدخول إلى قاعة العرض يشدّك طابور الأولياء بعضهم جاء ليشاهد ابناءه على الركح وبعضهم الآخر رافق أبناءه ليملأوا دواخلهم بتفاصيل الرقص والموسيقى والمسرح، فسيفساء من الأعمار زيّنت المدارج تشبه تلك التي ملأت الشوارع احتجاجا او احتفالا.
وعرض " نور" تأويل فني لتساؤلات وجودية عن الحلم وعن التغيير وعن الثورة وعن التمرّد، نسجت تفاصيله الأقطاب الثلاث لمسرح الاوبرا بمدينة الثقافة وهي أكاديمية الأركستر السمفوني التونسي لقطب الموسيقى والمجموعات السمفونية ومخبر الرقص لقطب الباليه والفنون الكوريغرافية وقطب المسرح والفنون الركحيّة لمسرح الأوبرا.
"اشش" دعوة إلى السكوت تستحضر معها سنوات القمع وإخفات الأصوات الرافضة له والتطبيع مع الواقع السوداوي ولكن هذه الدعوة مختلفة فهي تحملك إلى عالم قوامه القنون الموسيقى والرقص والمسرح والرسم، هي سفرة في عالم "نور" طفلة حالمة لها من العمر ستة عشر سنة.
حياة "نور" مزيج من الرقص والموسيقى امتصّت تفاصيلهما من والدها قائد الاوركستر السمفوني ووالدتها مدرّبة الرقص، ومن خطوات الرقص ونوتات الموسيقى شكّلت ملامح علمها الخاص وراقصت فرشاتها على ايقاعات الألوان.
هو عالم الرسم تهرب إليه من الواقع وتستجير به من سطوته، هي ترى الرسم كما الموسيقى وتحرّك ريشتها كما يحرّك قائد الأوركستر عصاه معلنا ميلاد معزوفة جديدة، هي تعش الألوان كل الألوان ولكنّ للأبيض والأحمر منزلة خاصة من قلبها.
الأحمر والأبيض، لونا الدم والسلام اللذان يزينان العلم التونسي، دم الشهداء الذين بذلوا أنفسهم في سبيل جرّية هذا البلاد والسلام الذي يحرسه أهلها بأرواحهم، وبين هذين اللونين عاشت " نور" ونسجت الأحلام وكذا فعلها غيرها من التونسيين، وتموت أحلام لتولد أخرى وتظلّ بعضها عالقة بناصية الامل.
وعلى إيقاع الموسيقى الأركسترالية التي اوجدها عازفو أكاديمية الأركستر السمفوني التونسي بقيادة المايسترو فادي بن عثمان عانقت فراشات مخبر الرقص لقطب الباليه والفنون الكوريغرافية الأفق، فراشات علمتهن تاتيانا برقاش ومريم الفرشيشي الرقص حول النور.
وفيما نغمات النشيد الوطني تملأ قاعة الأوبرا، تزيّن الركح بملابس الفراشات، ملابس حضرت فيها راية تونس وكانت فيها الفتيات اللاتي زيّن حضورهن الركح بعض من تونس الحالمة والموشّحة بالامل وحب الحياة.
وانت تشاهد العرض وتتأمّل تفاصيل عناق قائد الاركستر فادي بن عثمان و"نور" لن تشكّ للحظة أنّها ليست ابنته وأنها شخصية تؤدّيها روان العرفاوي التي تتلقى تدريبا في قطب المسرح والفنون الركحية ولن تشكّ أيضا ان المرأة التي "اقتحمت" العرض في نهاية أمّها مدرّبة الرقص.
على نسق نوتات موسيقى جوزيف هايدن، وجاك أوفنباخ، وشوبرت، وشوستاكوفيتش، وفاردي وأنور براهم، ارتسمت محاولات "نور" التي تريد أن تتعلّم الرقص وتسقط ولكنّها تكرّر المحاولة وما اشبها سقطات "نور" بمسار الثورة.
وهي تعانق ريشتها وألوانها تعلن نور رفضها لواقها وتنشد التغيير رافعة شعار الفن سبيلا للحياة، بيل يمدّ جذوره في الماضي ويعانق الحاضر ويتغزّل بالمستقبل، و"نور" رمز لجيل جديد لن يتوقّف عن الحلم ولن يفرّط في زاده من الأمل.
وعرض "نور" هو بعض من ملامح الثورة التي تجسّدت على الركح، من خلال "تمرّد" نور ورغبتها في التغيير ومضيّها في طريق هي التي رسمته وملاحفتها لحلم هي التي شكّلته في مخّيلتها، حلم يمتد في الهوية التونسية وينفتح على العالم الآخر من حولها.
ولأن الثورة لا تخلو من ملامح تثير الاستياء في النفوس فإن العرض لم يخل نقائص على مستوى الإخراج والإضاءة التي لم تكن متماهية مع حركات الراقصة، وهو الأمر الذي يفسّره مخرج العرض فارس لعفيف ببعض الأخطاء غير المحسوبة لراقصات الباليه خاصة وأنّها التجربة الأولى لهن أمام جمهور واسع.
وفي "نور" بعض من البطء الذي يحبس الموسيقى في نسق خطّي يبعث على الملل أحيانا ولجوء إلى الضوء الأخضر الذي يبدو في غير محلّه ولكن فارس لعفيف يرى أن الرؤية الإخراجية في لوحة "الصبح" تطلّبت ذلك.
وعن اختيار الأزياء الآسوية في نهاية العرض، والذي بدا مسقطا وكأن حلقة مفقودة، يشير مخرج العرض إلى أنّ اللوحة الراقصة في نهاية العرض هي حلم "نور" الذي يتجسّد من خلال تجذّر الفن في هويّته الأصلية وانفتاحه على الحركات الفينة في العالم، وهو ما يتجلّى من خلال المزج بين الباليه والرقص الكلاسيكي والرقص الشرقي.
والملاحظات الواردة أعلاه بخصوص بعض النقاط ليست إلا دعوة إلى تلافيها خاصة وأنّ فكرة العرض وتصوّره لا يخلوان من تفرّد وبالإمكان تجسيدهما في العروض القادمة لـ"نور" دون نقائص، مع الإشارة إلى أن العرض الأوّل من نوعه الذي يجمع الأقطاب الثلاث لمسرح الأوبرا.