فيديو كليب “أمي” لنور شيبة: جمالية اللحن والكلمة وعمق المعنى

 يسرى الشيخاوي-
إذا تعثّرتَ سندتك بقلبها وإذا تعريّتَ كستك بأنفاسها وإذا بردتَ دثّرتك بلمساتها وإذا حاصرك السواد تمد يديها لتغلق عينيك عنه، هي الأم التي وهبتك الحياة وحملتك وهنا على وهن.
داخلها تشكلت ملامحك الاولى وكنت امتدادا لها، فيك بعض من روحها ومن دمها ومن وجودها، وهي التي عانقت صرختك الأولى، تلك الصرخة التي أعلنت ميلاد حياة جديدة.ولتهبك الحياة تعانق الوجع والأمل على عتبة تماهت فيها الحياة والموت، هي الولادة تتشابك فيها المشاعر وتتراقص على وقع الترقب، وهذه الحالة تلازم الام كلما تعلق الأمر بأبنائها الذين لا يكبرون أبدا في نظرها.
 ومنذ الصرخة الاولى للوليد إلى أن يكبر وتتقاذفه ثنايا الحياة تمتزج عبرات الأم بابتساماتها وتملأ سكون الليل بصدى دعواتها، دعوات تغمر بها الأبناء في الحضور والغياب.
ولأن حضور الأم يعادل الحياة ولأنها خلاقة امل وولادة حلم فإن الفنان التونسي نور شيبة جعل من أمه بوصلته في أول فيديو كليب له بعنوان "أمي"، وبالفن الذي شغله أحيانا كثيرة عن أمه طيلة عشرين سنة كان هديته لها ولكل الأمهات اللاتي أفنين أعمارهن ليزهر درب الأبناء.
بين الفني والإنساني..
بعد مسيرة بلغت العقدين، يصطفي نور شيبة أمّه لتشكّل المعنى في أوّل أغنية مصوّرة له بعيدا عن اللون الموسيقي ذو الطابعي الفرائحي، ليجعل من الموسيقى عنوانا لهواجس ابن أخذته دروب الحياة بعيدا عن حضن أمّه التي تسكنه رغم المسافات.
وليس من الهين أن يحيد فنان عن أسلوبه الذي رسّخته الأركاح، هو أسلوب لا يخلو من الفرح والحماسة والرقص، ولكن الساعة أزفت للبوح بالشجن الذي يعتمر قلبه لأنه لم يستثمر كل عمره ليلازم امّه، يعانقها ويقبلها ويملأ رئتيه برائحتها، هي رائحة أمهاتنا تحجب عن رائحة النفاق والكذب من حولنا.
وأنت تشاهد الفيديو كليب تحفرعميقا في ذاكرتك وتجول في أعماقها حيث ذكريات الطفولة، صور كثيرة تتجلّى أمامك واضحة كأنها وليدة اللحظة ويتماهى داخلك الحنين بالشجن والخوف من الفقد وتبتسم لأنه مازال بإمكانك أن تسمع نبض قلب أمك.
"أمي" ليس عملا فنيا فحسب بل هو أيضا امتداد للإنساني إذ هو تعبيرة عما يحسّه ابن تجاه أمّه، هو نور شيبة الذي أظهر الكثير من الشجن في أدائه للأغنية حتّى أنك تستشعر بين الكلمة والاخرى ندما على اللحظات التي لم يمضيها مع أمّه وخوفا من غيابها، وهو نفس الاحساس الذي ينتابك حتى أنّك تغفل التفاصيل الفنية وتغرق في البعد الإنساني.
عن جمالية اللحن والكلمة.. 
وأغنية " أمي" من كلمات الشاعر الجليدي العويني وألحان نور شيبة، وفي لقاء الكلمة واللحن والأداء يتجلّى الكثير من الشجن والحنين، هي العلاقة بالأم تفرض نواميسها ويغلب عليها الوجد والروحانية فتبدو كل تفاصيل الأغنية ضفافة جدّا حتّى أنها تتتوشّح بالدراما في بعض المواضع.
"أمي الله يسترها ويطول في عمرها.. حياتي واللي فيها ما تساويش ظفرها.. حلينا عينينا على الضحكة الحنينة وهي تبنن بينا معانا يطول سهرها..يا ربي تخليها على العين وعالراس لاحفاذ ذراريها تقيملهم الأعراس..ونسافر ونجيها نلقاها لباس نقول الله يسترها هي ويطول في عمرها"، هي بعض من كلمات الاغنية، كلمات قد تبدو بسيطة ولكنّها عميقة المعنى.
وعن الكلمات يقول الجليدي العويني إن علاقتنا بالام لا تخلو من شجن وحنين وأن هذه اللحظات هي التي تكتب فيما تعاش لحظات الفرح، وهي كلمات تلخص الرباط المقدّس بين الأمهات والأبناء رباط يتوثّق بمرور السنين ويصير أقوى وأعتى في الشدائد.
أما اللحن فأوجدته قريحة نور شيبة، وهي ليست المرة الأولى التي يلحّن فيها أعماله ولكنّها المرة الأولى التي يكون فيها اللحن مفعما بالشجن والحنين والوجد وأحاسيس أخرى لا يعلمها إلا نور شيبة وربّما يشاركه فيه أبناء باعدت الظروف بينهم وبين أحضان امهاتهم.
عن الإخراج والتوزيع الموسيقي
وفي التوزيع الموسيقي راهن الموزّع حمدي المهيري على الاختلاف وعلى التصور المغاير الذي انتهجه نور شيبة، وجعل من الموسيقى مرآة للإبن الذي يرى أمه كل حياته ولا يستوعب أنه أمضى عمرا وهي بعيدة عن ناظريها، هي وضعية يمكن أن نمر بها جميعا فيحدث أن تأخذنا تفرعات الحياة بعيدا عن ذوينا دون رغبة منا، هي إكراهات تلهب لدينا الإحساس بالتقصير والندم.
انطلاق من لحن بث فيه نور شيبة كل ما يخالجه من أحاسيس وكلمات زيّنها الجليدي العويني بالشجن والحنين، كان التوزيع يحاكي معنى الأمومة بماهي مصدر للوجود عبر اللجوء إلى طابع الصالحي وإيقاع السعداوي، وفق حديث الموزع حمدي المهيري.
ايقاعات خافتة وحضور صارخ لآلة الدودوك أو ما يعرف بالمزمار الأرميني ذو الأنغام الدافئة والمحمّلة بالشجن، موسيقى تحاكي الصور والفيديوهات الواقعية التي توثق لحظات من حياة والدة نور شيبة الحاضرة في الفيديو كليب.
ثنائيات كثيرة يبوح بها الإخراج منها الحضور والغياب والأبيض والأسود والفرح والشجن والماضي والحاضر، فيض من الذكريات وسيل من الحنين يحاول نور شيبة محاصرته في بعض الصور التي يخزنها في عينيه ويغمض جفنيه ليحفظ تفاصيلها.
وعن فلسفة الإخراج، يقول المخرج ياسين طبقة إن الفيديو كليب قائم على الرمزية من خلال اعتماد اللونين الأبيض والأسود وفيه رسائل كثيرة غير مباشرة، رسائل تظافرت الكلمة واللحن والتورزيع الموسيقي وأداء نور شيبة لجعلها صادقة وعفوية حتّى أنّك تنسى كل العالم وأنت تشاهد الكليب ولا تفكر إلا في أمّك.
 
 
 
 
 
 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.