الشعب لا يريد يا سيادة الرئيس

 بقلم وسام حمدي –

"الشعب يريد" مفردتان عاطفيتان اقتبسهما الرئيس التونسي قيس سعيّد من أحد أهم شعارات الثورة، حين تحولت انتفاضة 17 ديسمبر 2010، من مطلبية اجتماعية واقتصادية إلى سياسية بامتياز، لتصدح حناجر المحتجين في 14 جانفي 2011 بشعار واحد لا شريك له “الشعب يريد إسقاط النظام”.

رفع قيس سعيد هذا الشعار طوال حملته الانتخابية قبل أن تمنحه صناديق الاقتراع أسبقية مريحة أهّلته لاعتلاء سدة الحكم في قصر قرطاج، لكن في أوّل اختبار شعبي حقيقي أعاد الرئيس لدى زيارته المرتجلة وغير المبرمجة بالشكل الكافي إلى مدينة سيدي بوزيد لإحياء الذكرى التاسعة لاندلاع شرارة الثورة، النطق بكلمة السر نفسها "الشعب يريد" بل وأردف مزوقا "رأسماله" السياسي بالقول إن "الشعب يعرف ما يريد".

قد نجد لقيس سعيّد الكثير من المبررات التي تجعل ظهوره وهو يتوسّل، فقط إلى حد الآن، خطبا حماسية قائمة أساسا على مخالجة عواطف المتقبّل لا على قراءات موضوعية للواقع المأزوم، ومنها مكبلات الصلاحيات الدستورية الضيقة والمحدودة التي منحها إياه الدستور التونسي مقارنة بالبرلمان أو برئيس الحكومة.

لكن بالرجوع إلى تقييم هذه الزيارة، ألم يكن الرئيس قادرا على ما هو أفضل؟ ألم يكن قادرا على ضخ جرعات أمل تلامس الواقع وتتمرد على السائد، عوض الغوص مجددا في شعبوية توزع هدايا لا تسمن من جوع ولا تغني من فقر لأبناء مدينة مهمّشة قامت انتفاضتهم في الأصل على مطالب "الشغل والحرية والكرامة الوطنية" عبر إعلانه أنه قرّر أن يكون يوم 17 ديسمبر من كل عام عطلة وطنية لجميع التونسيين؟

صحيح أن الرئيس ما بيده حيلة قد تضمّد جراح أبناء المناطق المهمشة وهم الذين صنعوا منه نجما سياسيا ثوريا كسر المنظومة السياسية التقليدية التونسية، لكن ألم يكن بيده وهو الرئيس أن يكسر روتينية الاحتفالات التي دأب عليها الناس طيلة تسع سنوات؟ ألم يكن بيده وهو الرئيس صاحب الشرعية منقطعة النظير منذ الثورة أن يحوّل منطقة سيدي بوزيد في أول أيام حكمه إلى قبلة للرؤساء ولأبرز وجوه السياسة عربيا وإقليميا ودوليا فيجعلها منارة تستقطب العالم فيتحسن حالها وحال أهلها؟

هذه الاجتهادات والأفكار السياسية لا تستحق تعقيدات بيروقراطية أو جلسة عامة بالبرلمان للنظر فيها ومن ثم المصادقة عليها، بل إنها تدخل في صميم صلاحيات الرئيس الدستورية القائمة أساسا على حذق فنون الدبلوماسية والعلاقات الخارجية.

صحيح أيضا أن الرئيس الذي يبدو أن زيارته لم تكن مبرمجة بل أملتها تساؤلات عجّت بها منصات التواصل الاجتماعي طيلة صباح يوم 17 ديسمبر من قبيل "أين اختفت ثورية الرئيس؟" شعر بإحراج كبير حين قصد سيدي بوزيد بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها، لكنه سقط أيضا كغيره ممّن حكموا تونس طيلة تسع سنوات في التبرّم لوعوده بمخاطبته للجموع التي كانت تنتظر منه حلولا لا مسكنات بقوله "سأعود إليكم بالمشاريع التنموية التي تريدون حين تتوفّر التمويلات".

يبدو أن قيس سعيّد بدأ يدرك الآن فقط أن مهمة الحكم أصعب مما كان وصناعه يعتقدون، ويبدو أنه بدأ يصحو من "سَكرة" وعود هلامية. ويبدو أنه استفاق أخيرا من نشوة الانتصار ومن حلم يراوده لكنه صعب التحقيق، ليقف في النهاية على حقيقة أن حربه أصبحت بمثابة الإشاعة وأن سيفه قد صُنع من خشب، بل إن كل وعوده وقفت عند عتبات النحو والصرف والأدب وأنها لا تصلح لا حاضرا ولا مستقبلا لإنقاذ البلد.

في ذروة المعركة المحتدمة في المشهد السياسي بالبلاد حول الحكومة القادمة المكلف بتشكيلها مرشح حركة النهضة الحبيب الجملي، لا يراهن الشباب اليائس على وعود الحكومة ولا على الإصلاحات التي تسوق لها، بل يراهن بشكل جدي حالم على قيس سعيّد لتصحيح المسار وتحقيق ربما ما قلّ من أهداف ثورتهم المسروقة، لكن المفارقة تكمن هنا في كون الرئيس نفسه يراهن على الشباب، إذن من سينقذ من؟ ومن سيصنع ربيع من؟

آن الأوان للرئيس التونسي ليصحح بوصلته بقلب القاعدة رأسا على عقب، فبدل التشبّث بقشة نجاة "الشعب يريد"، عليه الآن أن يذهب إلى ما هو أعمق كي يثبّت شرعيته وصدقيته، كما عليه أن يذهب أيضا إلى نقيض شعاره المقرّب إلى قلبه تماما بطرح السؤال المضاد "ما الذي لا يريده الشعب؟".

لقد أضاعت النخبة السياسية التي طرحت نفسها بديلا لنظام زين العابدين بن علي كل ما يريده الشعب من دولة ديمقراطية متحررة لكنها تكون في الآن ذاته قوية والأهم أن تكون عادلة، لتنقلب طموحاته إلى تحقيق ما لا يريد بدل ما يريد.

إن الشعب يا سيادة الرئيس لا يريد الوعود ولا يريد إعادة نفس الديباجات الثورية المجترة ولا يريد وقوف قادته في دوائر الغموض التي تخرجه من نقاط ضوء العالم، كما أنه لا يريد أن يكون طابورا خامسا ومنصة تُشن منها حروب سياسية ضيقة لا تعنيه.

إن الشعب لا يريد أيضا رئاسة تقوده إلى شبه عزلة في محيطها الإقليمي، بل يريد أن تكون مواقف حكامه حاسمة بحجج دامغة في أم القضايا خصوصا عندما يتعلق الأمر بدول الجوار كليبيا المحاصرة بشبح "العثمنة الأردوغانية"، كما لا يريد الشعب سياسة سئمها قوامها خطاب عاطفي يحلم حتى بالذهاب في مغامرة تحرير فلسطين التي يتسلح بها الرئيس قبل تحرير بلاده من مخاطر وبراثن الأخونة والأسلمة والإرهاب التي دقت طبول الحرب معلنة التمرّد على مكتسبات الدولة المدنية الحديثة والعودة به إلى نقطة الصفر.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.