المسرحية الكويتية “جزء من الفانية”: نور شمعة في مواجهة ظلمات النفس

 يسرى الشيخاوي –

شمعة تنطفئ وتشتعل على وقع أنفاس متعبة وحزينة، وإمرأة يتلون وجهها عقب كل انطفاء واشتعال وكأنها تحيا بنور الشمعة، مشهد يتكرر في المسرحية الكويتية "جزء من الفانية".

وليست الحركات المتتالية لغياب النور وسط العامة وعودته من جديد ليمد جذوره في ثنايا الظلام سوى سجال بين الحياة والموت وبين الخير والشر وبين الحب والكره.

وفي بداية العرض، قد يدور ممثلان حول طاولة تتوسط الركح الواحد تلو الآخر تتأمل حركاتهما الدائرية فيستبد بك الدوار لكن مع توقفهما، ليحل مشهد آخر تتعاقب فيه كلمات بالعربية الفصحى، وتتولد أحاديث عن الحياة والموت وعن اليأس والأمل.

سجال بين الأنا والآخر، بين النور والظلمة، بين الخير والشر وبين الوجود والعدم، تتبين تفاصيله في مشاهد المسرحية وفي حركات الشخصيات وسكناتها في تعبيرات وجوههم وفي نبرات أصواتهم وفي متممات الركح المتحركة.

والمسرحية التي تمثّل دولة الكويت في العروض الموازية، من إنتاج المسرح الكويتي وإخراج عبد العزيز خالد النصار وتأليف مريم نصير وتمثيل كفاح الرجيب وحصة النبهان وعبد الله بهمن وعبد العزيز بهبهاني ومهدي القصاب.

هي قصة دكتاتور أدمن صوت الأنفاس الأخيرة ووقع صعود أرواح بريئة الى السماء ومنظر الدموع إذ تذرفها الثكالى واليتامى على أعزاء غادروا هذه الأرض لأن رجلا بلا قلب شاء أن يرسلهم في رحلة بلا عودة دون ان ينتظر نهاية القصة.

روح تلو الروح يزهقها وآمال وأحلام يدفنها ورغبات غير معلنة يقبرها، نساء ورجال وأطفال يطفئ شموعهم بأنفاس جلّاد صار عبدا لأوامرها لا يردّها ولا يناقشها بل ينفذها خانعا صاغرا حتى باتت أنفاسه دلالة على الموت، أنفاس برائحة الدم.

الموت لعبة الدكتاتور والجلاد يده التي تحرّكها في كل الاتجاهات دون إيذان ولا إنذار، هو الموت عندما يأتي لا يمكن الفرار منه، تلك هي فلسفته التي قتل بها ضميره البارد، فلسفة واجه بها المحقق ذات اتهام بزرع الموت داخل المنازل.

رجل صالح وثائر شعبي ومثقف وصحفي، من بين الأرواح التي سافرت حيث الرفيق الأعلى وآخر رؤياها وجه الجلاد الذي بات بلا دم من فرط تعوّده على قتل الآخرين، ملامح شخصيات تزين الحياة بالمحبة والثورة والنور طمستها يد الدكتاتور.

نرجسية مفزعة يغرق فيها الدكتاتور وتتشظى كينونته على وقعها فيغدو بلا قلب ولا إحساس، وتموت داخله المحبة ويمد الشر يده نحوه قيخنق ما تبقى فيه من ذكرى الإنسان، وتتسرب رائحة انسانيته الميتة فتطفئ الشموع من حوله، ويتحسس سبيلا بلا معالم في ظلمة حالكة امتدت الى حياة زوجته.

وأما زوجته، فتناديه ولا حياة له وماعاد يكترث لكلامها وماعاد يسمع مواعظها، فهو لا يفقه الا تشكيل صور جديدة للموت يرسم حدودها بدماء لا ينقطع سيلها طالما الدكتاتور يخلق مزيدا من الخراب بأفعاله غير الإنسانية.

هي الطفلة الصغيرة التي كانت تحلم باحذية وفساتين جميلة ومجوهرات ولا تعلم أن زينتها ستكون مصبوغة بالدم، لتجد نفسها زوجة لصانع الموت، وهي تتذكر طفولتها ولعبها ذات صغر تفقه أنها ليست إلا لعبة شكلها زوجها حينما شكل ملامح الفناء في بيتهما، فناء أرقها وزرع الندم في دواخلها حينما صمت عن خطاياه.

مشاهد كثيرة تعاقبت على ركح قاعة ابن رشيق، كان فيها الندم جليا على ملامح زوجة الدكتاتور ولكن ذلك لم يشفع لها ولم تتبين طريق العودة إلى الوراء وهي التي تعطرت برائحة الموت ولبست فساتين من حزن ودم.

وأما الجلاد، الذي لم يكن سوى بيدقا يحركه الدكتاتور أنى شاء فلم يعد يقوى على تنفس هواء نظيف ولا السباحة خارج تيار الدم، هو غارق في بوتقة من الوهم يقتل ويقتل ويقتل معتقدا أن في ذلك هناء وعلى مشارف الهاوية صار يعي انه في كل مرة أخمد فيها نفسا كان يخنق زوجته، تلك المرأة التي تحتضن شمعتها المضيئة وتسارع إلى إشعالها كلما انطفأت مخافة ان تغرق في الظلمة.

حالة من التشتت والضياع، وسيل مبهم يجرف الجميع إليه، الدكتاتور والجلاد وزوجتاهما اللتان سئمتا أنباء الموت وأعداد الموتى والحديث عن المقابل، ليجد الجلاد نفسه وجها لوجه مع محقق يحاول تفكيك لغز الموت الذي لا ينام، جلاد كان يمسح الغبار عن الأحذية فصار يمسح الحياة عن الأجساد.

أسئلة يطرحها المحقق ولا يجد لها أجوبة وفي كل مرة يمرر فيها أصابعه على حقيقة جرائم الموت المتعاقبة تذوي من أمامه وكأنها السراب إلى أن يواجه الدكتاتور عراب المهمات القذرة ليتعثر ببروده.

حالات انسانية متناقضة تعرضها مسرحية "جزء من الفانية" التي تصور طريق فناء الذوات والأرواح حينما تتشوه ملامح الانسانية حتى تصير مجهولة يسكن الدم والدمع بين أخاديدها ويصبح إنهاء الحيوات لعبة، مجرّد لعبة لا تفرق بين قريب وبعيد، حتى أن الجلاد شطر شمعة زوجته إلى نصفين وأطفأ نور روحها.

وباستثناء بعض الاخطاء في نطق الكلمات وإعرابها والاداء المبالغ فيه بما لا يخدم العرض في مواضع قليلة، تمكن الممثلون من تقمص أدوارهم بطريقة راوحت بين الصدق والإقناع، الأمر الذي أثار تصفيق الجمهور في أكثر من مشهد.

وعلى الركح كانت السينوغرافيا بسيطة، لكنّها تحاكي حالة العبث والتشتت التي تغرق فيها الشخصيات، وكان تغير اتجاهات الطاولة المتحركة في تناغم مع أداء الممثلين وحركة الأضواء التي تحتد وتخفت في محاكاة لنبرة الاصوات وحركة الأجساد.

وفي "جزء من الفانية" تظافر النص مع تعبيرات الممثلين وإيماءاتهم ليجسّدوا حالات إنسانية تشقها مشاعر متناقضة تمتد من الحب إلى الكره.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.