13
مالك الزغدودي-
الموت وراءكم أمامكم وفي كل مكان، تونس، تؤنس الزوار، بأشجارها الخضراء الوارفة، تونس، تؤنس شبابها في رحلة الموت، بكل الطرق الممكنة، خبر صار يوميا.
ذهبت لتدرس فماتت، وحملها سيل الوادي، إلى مثواها الأخير، ذهب ليشاهد مباراة كرة قدم وآخر ليحتفل بعيد ميلاده، وشخص واقف أمام منزله، فغدرته رصاصة طائشة ومات، رضع لم يروا من فصول الحياة بعد، وماتوا أيضا (هل اطّلع أحد منكهم على تقرير اللجنة). السؤال كم من مرة استعملت كلمة موت؟ طبعا لست في رواية ألبار كامي الطاعون، ولست في مدينة ضربها مرض معد وشديد الانتشار، ربما أنت في بلاد الديستوبيا؟ (سيسأل الكثير منكم هل شرعي كل هذا السواد والإحباط في مقال؟).
كل جملة تكتب، هي جملة تظهر جملة أخرى وقع الحيف عليها، الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، جملة قالتها أستاذتنا في محاضرة حول الفلسفة والسينما،وطبعا ما يحدث لا يمكن، لفرنك شطاين نفسه رائد أفلام الرعب أن يتخيله. بربكم هل شاهدتم في أفلام الرعب، نقاشا عن جواز الرحمة على أناس ماتوا في حادث سير؟ هل يوجد هكذا في القرن الواحد والعشرين؟ نعم إنها بلاد الديستوبيا.
وإني ربما أبكي الأن وأنا أكتب، أو أرفع الحيف على جمل كان يجب أن تقال، حتى لو كتبت بالدمع، كما قالت الأستاذة في أخر محاضرة، رحم الله كل الموتى في هذا الوطن، وأسكن قلوب أهلهم الصبر والسلوان.
ماهي الديستوبيا؟
يُطلق البعض على الأدب الديستوبي اسم "الاحترار السياسي" لأنه يُحاول اكتشاف ومناقشة مشاكل وقضايا المجتمع المعاصر، هذا أحد التعريفات الشائعة للديستوبيا، بدأت به عمدا لأني أعتقد أن ساستنا أبناء الديستوبيا بفوارق، فهناك من استشهد على أعتاب الحلم بتونس أخرى ممكنة(لو قدم أي منهم شكوى، فل يبدأ بجورج آروال فهو رائد الديستوبيا). إنه مجتمع خيالي، فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه بطريقة ما، إنه مجتمع مرعب ورهيب.
تسود هذا المجتمع الفوضىٰ، والعنف ، فهو عالم ليس للخير فيه من مكان، عالم الشر المطلق، ملامحه الخراب، والقتل والقمع والفقر والمرض(اللوالب الفاسدة، وغياب الدواء والدم وموت الرضع َديون الصناديق الإجتماعية)، إنه عالم يتجرد فيه الإنسان من أي درجة من الآدمية، فيتحوّل فيه المجتمع إلىٰ مجموعة من المسوخ تتناحر فيما بينها.
تتميز الديستوبيات تتميز غالباً بالتجرد من الإنسانية، والحكومات الشمولية والكوارث البيئية(حرائق الجبال، الفيضانات) أو غيرها من الخصائص المرتبطة بانحطاط كارثي في المجتمع (صراع سياسي خال من ايتيقا النقاش العام، سب وشتم وعنف حتى في السكتشات التى من المفروض أن تكون مضحكة)
وتتنوع عناصر الديستوبيا من القضايا السياسية إلى القضايا الإقتصادية أو حتى البيئية، فالمجتمعات الديستوبية قد توجت في سلسلة واسعة من الأنواع الفرعية من الخيال العلمي، وعادة تستخدم هذه القصص والروايات لتسليط الضوء على القضايا الموجودة في العالم الواقعي المتعلقة بالمجتمع والبيئة والسياسية والدين وعلم النفس (البارحة اناحر شخص أخر في مدينة القيروان) والقيم الروحية التي باتت مجرد خطاب للتعبئة الانتخابية.
هنا نحن ننسى بسرعة..
وجدت احصائية وطنية تقول إن أكثر من خمس مئة طفل هم ضحايا حوادث الطرقات في العشرية الأخيرة. تخيلوا باقي الفئات العمرية، فلنحاول تذكر الأحداث المؤلمة دون ترتيب زمني، اغتيالات سياسية وذبح جنود في رمضان مع موعد الافطار ومحاولة احتلال مدينة بن قردان واستشهاد الصبية، تفجيرات في شارع الحبيب بورقيبة، أحداث جبل الشعانبي، شاب يحتفل بعيد ميلاده يضرب بوحشية أمام الجميع دون أن يحرك شخص من الساهرين يده، عفوا أحدهم صفعه رغم أنه لا يعرف الحكاية ثم مات الشاب أدم، رضع قتلى ولم تتوصل اللجنة إلى الأسباب، انقلاب شاحنة نقل عاملات فلاحيات في أكثر من جهة، لوالب قلبية فاسدة فهل تغير شيئ؟ لا نحن نقوم بالسلاكتيفيزم وننسى بسرعة؟ أم أن الأحداث هي السريعة؟ أم كيف تمر علينا كل هذه الكوارث بسرعة (مع حادثة الحافلة، هناك من انتحر بمدينة القيروان وأمس حرق شاب معاق نفسه لأنه لم يتحصل على جرايته لمدة عام ونصف في مدينة جلمة) كيف يمكن أن نشعر بالرضا ونحن نعيش هنا؟ أو ماهو السلاكتيفيزم يا جيل الشاشة؟ لغويا هي كلمة انقليزية تتكون من "slack" أي كسول و"activism" أي النشاط.
هذه الظاهرة تفاقمت مع تزايد انتشار واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي فنكتفي بالـ"جام" أو" برطاج"، مشاركة التدوينات وتبادل التغريدات المرتبطة بقضايا عامة بغية رسم صورة الشخص الواعي اجتماعيا وسياسيا أمام الاخرين وعادة ما تهدف هذه الظاهرة إلى إعطاء شعور جيد للمشاركين فيها دون أي تأثير فعلي على أرض الواقع.
يشمل "النشاط المتكاسل" توقيع العرائض على الانترنت، والانضمام الالكتروني إلى مجموعة عمل معينة دون وضع أي مجهود يذكر في النشاط الفعلي في الواقع، ونسخ ولصق الرسائل والمواقف على الصفحات الشخصية على الفايسبوك، وتغيير الصور الرمزية تضامنا مع قضايا عامة، إنها صورة واهمة أننا نغير، وأننا عبر وسائط التواصل الإجتماعي بمجرد كتابة منشور نتمكن من تغيير شيء ما، إنه رضا سام على الواقع.
دائما هناك أمل.. ربما..
نتوقع جميعا أن نجد حلا في نهاية المطاف، لقد كانت كل القصص التى نحبها في صغرنا تنتهي بفوز الأبطال الخييرين، هنا لا أعتقد ذلك، الحل هو الصراخ، احتجاجا على هذه اللا عقلانية والاستهتار المطلق بحياتنا كبشر على هذه الرقعة الجغرافية.
"غادجي بيري بيمبا.."غلاندريدي لاولا لوني كادوري.. غادياما غراما بريدا بيمبالا.. غلاندري غالاساسا لاوليتالوميني"، اخترع "بال" رائد الدادئية قصائد بلا كلمات مفهومة عُرفت باسم "الشعر الصوتي"، وكانت تقع على مسامع غير المُطَّلعين لتعرِّفهم بسِمات حركة "الدادائية"، التي غيرت مفهوم الفن وشكله لتحوِّله إلى مجرد كلام فارغ، أو مفرغ من المعنى، مثل بلاد أصبح حتى الموت فيها بلا معنى.
أعتقد أن هناك رائدا جديدا للدادئية، وشخصا يقول جملا بلا معنى أكثز من "بال" نفسه، شاهدوا هذا التصريح بعد حادثة الحافلة، "قيس سعيد:استخدام الحافلة التي انقلبت جرم في حق المسافرين." من فهم منكم ماذا يقصد هل رأى حالة الطريق الرديئة؟ هل علم أن أقرب مستشفى مجهز يمكن له استقبال الجرحى هو في العاصمة؟ هل علم أن الأهالي يبحثون عن المعلومة الصحيحة حول مصير أبنائهم على مجموعات الفايس بوك؟ سيادة الرئيس أنا لا أريد أبدا منك عناقا حارا.