حكايات من المهد إلى اللحد: عن مها القضقاضي وأحلام لم تكتمل

 أمل الصامت –

لم أتخيل يوما أن يملأ بلاغ نعيي صفحات الجرائد ويغزو البلاتوهات التلفزية وينتشر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.. لم أحلم يوما أن يتغزل أبناء وطني أو حتى الغرباء عني بجمال وجهي الملائكي ونظرات عيني الحالمة.. لم أتوقع أن خبر موتي سينزل صاعقة على غير أفراد عائلتي.. بل لم أكن لأصدق أنني سأسيل حبر الرثاء مدرارا لو لم تحدثني أمي عن كل ذلك باكية فوق قبري.

نعم سمعتك أمي وأنت تروين لي حكايا الناس عن فاجعتي، وكم تألمت حين خاطبتني ونار فراقي تحرق الحروف بين شفتيك، وأنا التي لطالما تقت أن أمسح غبار تعب السنين عنك وعن والدي، ولكن وجدتني لا أستطيع حتى مواساتك على فقدي.

كم وددت أن أدعوك إلى أن تطمئني يا أمي فهنا تحت اللحد وبين التراب أرحم بكثير من تلك السيول التي أغرقتني وحجارة الوادي التي تلقفتني.. هنا كائنات جميلة تسليني وتخفف عني، ربما قرأت عنها في بعض القصص التي كان يعيرني إياها معلمي الذي قلت إنه بكاني.. كائنات وجوهها من نور تضيء ظلمة مكان يحسب من هم خارجه أنه موحش ولكن أقسم أنه مؤنس أكثر من الطريق الذي كنت أسلكه لأبلغ مدرستي.. تلك المدرسة التي لم تتنازلي يا أمي رغم ظروف عيشنا القاسية عن إلحاقي بها.

لو تعرفين يا أعظم نساء الدنيا كم تخيلتني أجلب لك فساتين جميلة كوجهك الذي، وإن أعيته طريق الجبل صعودا ونزولا تبحثين عن قوت يقوي عودي، يبقى الأجمل في نظري.. كم رأيتني، مثلما أخبرت والدي يوما، مدرسة بنفس مدرستي أعد جيلا جديدا في زمن أحسن بكثير من الذي تمدرست فيه، أتقاضى راتبا لا يجعلك تضطرين إلى إعطاء رشوة تحصلين بها على بطاقة علاج مجانية لوالدي، وتدخرين منه قسطا لتشييد سقف وحيطان تحمينا برد الشتاء وحرّ الصيف، فلم أكن أريد لدفاتر تلاميذي أن تتلف كما كانت تتلف دفاتري.

كنت تفرحين لنتائجي وتميزي وزادي في ذلك شمعة أراجع تحت ضوئها المرتعش دروسي، وكان والدي يجمع شهادات "الشكر" و"الشرف" التي أحصل عليها في ملف يستعرضه فخرا أمام العائلة والجيران.. كم كنت متحمسة لأن تتوج نجاحاتي ويكتمل الحلم.. فهل كان حلمي أكبر مني لدرجة أن تخونني طريق ألفتها طيلة السنوات الست الماضية؟ لقد كنت حقا أتصور أنها طريقي نحو ذلك الحلم.. حلمي البسيط ببيت لا يقطر سقفه ولا تنقطع الإنارة فيه، بيت حيطانه تستطيع أن تستوعب رسوماتي التي كانت تشبهني وتشبه "عائلتي السعيدة".

لم أفهم  يا والدتي ما كنت تقصدينه عندما حدثتني، وصدى الرجفات في صوتك يخترق قبري، عن المسؤولين والسياسيين الذين ألهتهم كعكة تقسيم المناصب والامتيازات عن الالتفات بعين الرحمة والمسؤولية لوضع سكان الحدود والمناطق الوعرة كالتي نقطنها، وفي الحقيقة لا أريد أن أفهم، فقط أريد أن أعرف لماذا وئدت أحلامي البسيطة في بداية الطريق؟ ولكن اطمئني لن أسألك وأزيد من وجعك، بل سأسأل تلك الكائنات التي تضيئ ظلمة مسكني الجديد أن توكل قاضي السماء ليحكم إن كان عدلا ما جرى معي؟ حتما سأجد كل الإجابات حتى نلتقي في عالمي الجميل وأخبرك بها.

وداعا أمي.. وداعا أبي.. وداعا يا من كنتما سبب الحلم وغايته.

*ملاحظة: كل ما ورد في هذا المقال هو محظ خيال وتخليد لذكرى الشهيدة الطفلة مها القضقاضي التي توفيت قبل يومين، بعد أن جرفتها مياه إحدى الشعاب بمنطقة "أولاد مفدة" من معتمدية فرنانة بولاية جندوبة على إثر نزول كميّات هامة من الأمطار بالجهة.

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.