أمازيغ كاتب في أيام قرطاج الموسيقية: حالة فنية تمتد من الثورة إلى الحرية

 يسرى الشيخاوي- 

فيما تونسيون يرابطون بشارع الحبيب بورقيبة احتفاء بفوز  قيس سعيد برئاسة الجمهورية ويملأون بهتافاتهم الأثير، يعبر الفنان الجزائري أمازيغ كاتب بين أصوات المحتفلين ويمضي إلى مدينة الثقافة سيرا على القدمين ليلتقي جمهورا انتظره بشوق لموسيقاه وصوته.

قد يبعث الأمر  في البدء على الدهشة ولكن إذا ما استحضرت صور أمازيغ كاتب ملتحما بالثائرين على الوضع في الجزائر بطلت هذه الدهشة، وحلت محلّها بعض الأجوبة عن معنى أن تكون فنّانا، فأن يقطع مسافة ليست بالهينة وسط حشود أسكرتها هستيريا الفرح ليس الا برهانا على تفرّده.

في الأثناء تغصّ قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة بعشاق موسيقى الغناوة التي زيّنها أمازيغ كاتب ببعض من روحه الثائرة المتمرّدة التواقة إلى الحريّة، ويطلّ "المشّاء" على جمهوره وكما تلتحم الجماهير الثائرة بقائدها هبّ الحضور نحو الركح وطوّقوه بسيل من الهتاف والتصفيق.

ما إن قالت الآلات الموسيقية قولها وانساب صوت الفنان الجزائري يحاكيها ويتخطّى قدرتها على مداعبة أوتار العاطفة، حتّى غصّت واجهة الركح بالجمهور ورفرف العلمين الجزائري والأمازيغي على إيقاع " الشعب يريد إسقاط النظام".

ربّما تعجز الكلمات عن رسم المشهد كما بدا في قاعة الأوبرا، ففي عرض أمازيغ كاتب في أيام قرطاج الموسيقية، كانت المرة الأولى التي يغادر فيها الجمهور المقاعد ليولي وجهه شطر الركح ويستشعر قربا من فنّان يلهمه ويهبه قدرة على التمرّد وعلى التحرر وعلى الضيم والطغيان.

فنان وإنسان يدين بدين الحرية، يوقّر جمهوره وهو الذي لم يتوان عن الاعتذار لمن أراد أن يسمع صوت أنفاسه ودقات قلبه وهو يغني ولكن  أمورا تنظيمية أمنية حالت دون ذلك، ولئن تقهقر محبو أمازيغ كاتب بعد تدخّل من مسؤولي التنظيم في مدينة الثقافة إلا أنّهم لم يعودوا إلى كراسيهم.

هو الحر والثائر الذي لا يخضع إلا لأفكاره، يشبه أباه  المسرحي والأديب "كاتب ياسن، كلاهما كصرخة تواجه الخضوع والحيف وكل ما من شأنه أن يمس من إنسانية الإنسان، يشبه أباه ولكنّه شق لنفسه طريقا إبداعية بعيدا عن الأدب والمسرح ليرتمي في أحضان الموسيقى والغناء وكانت البداية بتأسيس فرقة "قناوة ديفيزيون".  

ولئن انفصل أمازيغ عن المجموعة التي بعث فيها الروح إلا أنّه ظل يتبع العقيدة الموسيقية ذاتها، عقيدة متعددة الاثنيات مختلفة التأثيرات تتوحّد فيها أنماط موسيقية كثيرة وتجتمع بها هويات عدّة من الأمازيغية إلى العربية والافريقية والمتوسّطية.

وهو يداعب أوتار القمبري، يخلق نغمات وكلمات مارقة عن كل تصنيف يخاطب بها عقول والجمهور وعاطفتهم وإن كانت موسيقاه مسكرة مذهبة للعقل، موسيقى لا تملك إلا أن ترقص على وقعها وأنت تستحضر الثورات والهتافات والشعارات المخضّبة بالدماء.

القناوة والريغي والراب والراي، تلوينات موسيقية سخّرها أمازيغ كاتب وكلمات جادت بها قريحته التي تمطر عكس التيار ليرسم شخصية فنان لا يشبه إلا الثورة، لذلك هو صدى صوت الشعب يروي هواجسه بلغة مفهومة، ويكسر حاجز الصمت من حوله.

"ما تربي" و"أفريكان" و"بومبا ماليكا" و"يالمنفي" و"مصيبة" ، غنّى "القناوي" وهو يراقص "قمبريه" ويغازل جمهورا  لم يتوقّف عن الرقص طيلة العرض، وكأنّ بالحاضرين ينفثون عن أنفسهم الأدران ويتحررون من سطوة الواقع حينما تتماهى حركاتهم مع نسق الموسيقى العابرة للحدود وللقلوب.

أغان ثورية ذات نفحات إنسانية وتحررية لا يخلو منها ألبوم " مارشي نوار"، وهذه النفحات لن تغيب عن ألبومه الجديد الذي  ألهاه عنه التحامه بالثائرين في وطنه الجزائر، فالفن ليس كلمات وموسيقى تزيّن المهرجانات وإنّما رسالة حمّالة معان، وأمازيغ كاتب فهم الأمر جيّدا.

وكلمات الفنان المغرّد خارج السرب وموسيقاه تعبيرات استيتيقية عن نزعة ثورية، هي ذبذبات يتلقّاها جمهوره فيستبطنها وينتشي بها، ويحوّلها إلى حركات وخطوات يستلهمها من الايقاعات والألحان وصدى الصوت.

 ولأن الفنّ أخو الخلق، فإنه سكب بعضا من روحه في عرضه، فكان نبيا وأداؤه وحي، وحي بتجليات جميلة عميقة نابعة من دواخل لا مستقر لها، وحي جعل من أمازيغ كاتب حالة فنية تمتد من الثورة إلى الحريّة.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.