18
يسرى الشيخاوي-
هو مخرج يؤمن بدور الفن في تشريح الواقع ووضع الاصبع على مكامن الداء فيه، مخرج يسخّر الأفلام التي يخلقها من رحم هواجس نابعة من تجارب ذاتية يطوّعها لتكون رسائل وصفرات إنذار يواجه بها الذاكرة القصيرة.
هو وليد الطايع صاحب "فترية"، الفيلم الروائي الطويل الذي يصوّر يوما من زمن بن علي، يوم احتضنت تونس قمّة عربية سنة أربعة وألفين، يوم لا يختلف عن غيره من الأيام البنفسجية التي تسير فيها هموم الحاكم وهموم الشعب في خطين متوازين لا يلتقيان.
وللحديث عن "فترية"، وعن العلاقة بين الفن والسياسة وعن دور الفنّان في إلقاء الضوء على مواضع من الذاكرة لفّها السواد، التقت حقائق أون لامخرج وليد الطايع وكان معه الحوار التالي:
"فترية" هو الفيلم الروائي الأول الطويل لوليد الطايع بعد أفلام أخرى قصيرة، هل هو توجّه أم ان الامر رهين الظروف؟
في الواقع انطلقت كتابة الفيلم منذ سنة سبع وألفين وانتهت كتابته سنة تسع وألفين ولكن تنفيذه استغرق وقتا طويلا لصعوبة التمويل نظرا لكونه من نوع الكوميديا.
والأمر لم يكن توجّها بمعنى أنني لم أرد أن انطلق بالأفلام القصيرة ثم أنفّذ فيلما طويلا، ولكن الأمر كان مرتبطا بصناديق الدّعم، وقد تحصّل "فترية" على دعم من تونس ومن فرنسا ونُفّذ بميزانية متواضعة جدّا مقارنة بميزانية أفلام أخرى.
إذا الظروف هي التي حتّمت أن أُخرج "فتّرية" بعد سنوات من كتابته وكان من المفترض أن أكون قد أخرجتُ فيلما طويلا ثالثا وحتّى رابعا.
تحدّثت عن كون سيناريو الفيلم جاهز منذ سنة تسع وألفين، إذا ما وضعنا مشكلة التمويل جانبا هل كان النظام القائم حينها حائلا دون تنفيذه خاصة وأنه يسخر منه؟
المشاهد التي تُعرض في الفيلم هي نفسها التي تضمّنها السيناريو الذي سجّلناه في لجنة الدعم سنة عشر وألفين والنظام البنفسجي مازال قائما، وحينها أخبرني المنتج أنّ الفيلم " ساخن" بمعنى أنّه يطرح سخرية جريئة من النظام وفعلا رُفض العمل.
هذا الأمر الذي جعلني أتوقع ان ذلك النظام الذي اتمنى ان لا يتكرر لأنه رديء وتفّه العقول، إن بقي لكان الفيلم تعرّض اليوم إلى السينما والصنصرة خلاصة وأنا ابن نوادي السينما والسينمائيين الهواة، ولئن رأى الفيلم النور بعد أكثر من عقد من الزمن فإنّني كنتُ أتمنى أن يُعرض سنة احد عشر وألفين أو اربعة عشر وألفين.
عنوان الفيلم " فترية" ومن معانيه ذروة الفوضى، نظام بن علي لا يخلو من الـ"فترية" هل ينسحب الأمر على الوضع اليوم؟
نعم لا يخلو الوضع اليوم من الـ"فترية"، فقط تغيّر أمر واحد وهو الوعي السياسي للمواطنين فقبل تسع سنوات كان من الخيال العلمي أن يتحدّث مجموعة من الأفراد عن السياسة في فضاء عام، ولكن هذا لا يطمس كون الهوة مازالت شاسعة بين الخطاب السياسي وهموم الناس ومشاغلهم ومتطلباتهم.
"هل نحن اليوم على المسار الصحيح" سؤال يتبادر إلى أذهاننا وقد تكون إجابته نفيا ولكن أنا أفضل الوضع الحالي ألف مرّة عن الوضع في نظام بن علي على الأقل نحن نعي الحقيقة ونعي أنّها ليست مفبركة على شكل بطاقة بريدية فُرض علينا الإيمان بما تضمّنته من زيف، واليوم يمكننا أن نواجه هذه الحقيقة دون خوف.
تميل دائما إلى الكوميديا في أعمالك بما فيها "فترية"، لماذا هذا التوجّه رغم ما يحيط به من صعوبات؟
اخترت أن يكون "فترية" كوميديا وهو اختيار صعب جدّا وأنا ادفع اليوم فاتورته باهضة، وهذا الخيار نابع من حبّي للكوميديا لأن للضحك قدرة على تبليغ عدة رسائل مع مراعاة ان يكون ذكيّا وغير مبتذل إذ ليس من السهل ان تثير ضحك البعض.
والضحك هو اوّل خطوة لهضم المشكل فالمرأ حينما يضحك منه يتفهه وهي أول خطوة لحلّ الـ"فترية"، وفي "فترية" عملنا بالمثل الشعبي "كثر الهم يضحّك" والمتفرج يضحك ولكنه يتألم في نفس الوقت، يهتز داخله رغم الضحك.
هل كتبتَ "فترية" لممثلين بعينهم أم أنّ الكاستينغ عقب السيناريو؟
في الواقع كتبت لممثلين، فدور "صالحة" مكتوب لريم الحمروني، ودور"حمادي" تقني في الكهرباء لجمال المداني، والكوريغراف "نادية" لنادية السايجي ، ودور"عمار" كان في الأول للمثل أحمد السنوسي رحمه الله وقد اطلع على السيناريو وبعد وفاته لم ار غير عيسى الحراث ممثلا قادرا على تجسيد هذا الدور وقد كان رائعا بالفعل.
أغلب الممثلين تقريبا من المسرح، لما هذا التوجّه؟
نعم هم من عالم المسرح والرقص، ورغم أنّ بعض المخرجين يخافون من إسناد أدوار لممثلين مسرحيين لوجود نوع من الاداء المبالغ فيه، ولكن الأمر بالنسبة لي لم يبعث على الخوف لأن الفيلم أصلا ينطوي على نوع من المبالغة في الأداء فبعض الأدوار ممسرحة وحتّى المشاهد مسرحتها ولم أقتطع مشاهد من الفضاءات العادية التي نعيش فيها يوميا حتّى بدت كأنها ركحا مسرحيا، ولقد مسرحتُ الحياة في في الفيلم لكن بالعين الرقيبة.
ماذا تقصد بالعين الرقيبة، هل في الأمر رسالة سياسية؟
في الإخراج برزت تلك العين التي تراقب الأشخاص وكأنها كاميرا مراقبة أو عين رقيبة تتلصّص من وراء الباب بمعنى أنّني مسرحتُ الحياة في يوم من حقبة بن علي في حضرة عين بوليسية والامر ليس اعتباطيا فالنظام كان بوليسيا ومن الطرائف التي حصلت معي أنّ حلاقي كان مخبرا.
والإخراج جعل من الفضاءات التي يتحرّك فيها الممثلون وكأنها ركح مسرحي أشبه بمستشفى للمجانين، الأمر الذي جعل الشخصيات أقرب إلى الكرتون بكل تلك الهستيريا التي يغرقون فيها.
في حديثك عن الإخراج إشارات سياسية كثيرة، إلى أيّ مدى يتقاطع السياسي والفني حسب رؤيتك؟
كل عمل فني هو عمل سياسي بمعنى أنه يتموقع في رأي ما يخلق الفنان انطلاقا من وجهة نظره للحياة وللنظام القائم وإن كان ديمقراطيا، و"فترية" هو تموقع في الحياة العادية الشعبية لأفراد لا يكترثون نهائيا بالخطابات الرنانة والبطاقة البريدية التي يسوّقها النظام.
هناك تناقض كبير بين الخطاب الرسمي المعنون بالأمن والامان وفرحة شباب تونس وتونس بلد الفرح الدائم وبين ما يعيشه الشب في حياته اليومية من هموم، والأدهى والأمر أنّ النظام كان يفرض علينا الإيمان ببطاقته البريدية مع الابتسام وسلاحه في ذلك الخوف، واليوم إن تقدّمنا شوطا نحو التغيير فالأمر يتعلّق بنزع الخوف فشعب يخاف شعب لا ينتج.
أي دور للسينما في تغيير الواقع حسب رأيك؟
بعض الافلام امكن لها تغيير الواقع مثل "يوم حلو يوم مر" الذي أثار ضضجّة في مصر وأسهم في تغيير وضع المرأة وهذه حالات نادرة ولكن يكفي أن يضع الفيلم اصبع على المشكل ويندّد به، وأنا أؤمن بالدور الفعال للفن في تعزيز الوعي وفكرة المواطنة بمعنى أن يكون المواطن منخرطا في الشأن العام وغير مستقيل منه.
والنظام البنفسجي اذا نجح في امر بمعية مستشاريه والآلة الضخمة المحيطة به فهو ضرب الفكر النقدي الابتكاري، وخلق انسان خانع خائف يوفر له النظام القروض والسيارة الشعبية ولكنه أغلق قاعات السينما ونوادي السينما وحاصر أبناءها ذلك ان هذه النوادي فضاءات للنقاش وبناء الوعي السياسي لدى الرواد، وللفنون دور في أن يتصالح الإنسان مع نفسه بجسد يعبّر وعقل يفكّر.
إذا، هل تجربتك الفنية نتاج حصار فرضه نظام بن علي على الفكر النقدي؟
أنا إلى اليوم أعاني صدمة من سنوات حكم بن علي التي تفّهت العقول وخلقت جيلين من المستقيلين من الشأن العام، وبعد الثورة كان الشباب بلا أدنى وعي سياسي ولا يفرقون بين اليسار واليمين ذلك أنّ النظام البنفسجي جعل من الثقافة مبتذلة ورديئة حصرها في الترفيه المبتذل وهو ما يعكس حقيقة نظام جاهل انعكس جهله على تصوّره للثقافة.
شخصيا لدي إشكال ثقافي في السوات الثلاث والعشرين التي حكمها بن علي، ولدي انطباع بأن هناك إرادة لتجاهلها ومثلما كان هناك توجّه للتاريخ انطلاقا من سنة سبعة وثمانين وتسعمائة وألف السنة التي تولّى فيها بن علي الحكم، هناك توجّه من البعض للتأريخ انطلاقا من سنة أحد عشرة وألفين.
ونظام بن علي ترك بصمة رداءة وما نعيشه اليوم من حالة ذهنية وتصور رديء للشأن السياسي هو نتاج لحالة القمع التي كان يفرضها وما نعانيه اليوم من آثارها ولكن ذلك لا ينفي تشكّل وعي سياسي.
وفيلم "فترية" هو عملية تشريح ليوم واحد من زمن بن علي لكنّه محاكاة لحقبة كاملة في محاولة لفهم ماذا حدث لنا في ثلاثة وعشرين سنة ولماذا نحن اليوم على هذه الصورة، وعندما نقترب من الفهم يمكننا المضي قدما، ولذلك انا اليوم لم أنجز أي فيلم عن الثورة ولا أستطيع وحتّى في آخر مشهد من "فترية" كانت الضبابية سيدة المشهد لأن الأمر يتطلّب محاولات كثيرة للفهم.
هل نفهم من المشهد الضبابي ومن حديثك عن محاولات فهم اخرى أنك ستنجز أفلاما اخرى عن الحقبة التي حكم فيها بن علي؟
نعم مازلت سأعمل على تلك الحقبة، خاصة وأن "فترية" هي العمل السينمائي الأوّل عنها ويبدأ وينتهي فيها وغن كان هناك إشارات عن وجود غليان في الشارع التونسي لكن دون تصريح، وسواء كان فيلما روائيا او وثائقيا فإنني أتمنى أن اغوص أكثر في تلك الفترة.
هل أنت اليوم راض عن التفاعل مع فيلم "فترية"؟
نعم انا راض عن الفيلم، لكن كان بإمكاني القيام بأشياء أخرى ذلك أنني اضطررتُ لتقديم بعض التنازلات لإنقاذ الفيلم لأن ميزانية الانتاج تشدّنا دائما إلى الحقيقة، و"فترية" لاقى إعجاب الجمهور لأنّه من نوع الكوميديا التي تمتعك وتدفعك إلى التفكير في ذات الآن وهو أمر نادر في السينما وما أتابعه على شبكات التواصل الاجتماعي أو الصحافة يعكس ذلك خاصة.
هل يعني ذلك أن رسالة الفيلم وصلت إلى الجمهور كما أردتها؟
أن تصل رسالة الفنان إلى الجمهور في حد ذاته جائزة، ولا يوجد جائزة أكبر من إقبال الجمهور على عمل فني والانخراط في الرؤية التي يحويها والقاعات المليئة بالجمهور خير دليل على ذلك وهو يقاسمني وجهة نظري ويضحك ويتعلّم ويعيش نفس الموقف الذي صورته ونحن نتناقش بخصوصه أتفطّن إلى أنّني حرّكتُ شيئا ما داخلهم لأنني أعدتهم إلى ذلك النظام.
فكرة الفيلم تختمر في ذهنك منذ سنة سبع والفين ولكنها لم تر النور إلا بعد اثنتي عشر سنة لصعوبات في الإنتاج، ماهي رسالتك لمن واجه أو يواجه نفس وضعيّتك؟
المثابرة والصبر هما المفتاح، ولكنني لن انتظر بعد اليوم لعشر سنوات واكثر لإنجاز فيلم، فبعد تطور الكتابة والوصول إلى مرحلة التمويل إذ ل ينفّذ العمل في في غضون ثلاث سنوات سأمرّ إلى أمر آخر لأن الحياة قصير، لا شك في أن الأمر مؤلم ولكن ما من حل آخر.
ماهي مشاريعك المستقبلية؟
لديّ شريط وثائقي بصدد الإنجاز وأنا أستعد لإصدار رواية في السنة المقبلة أحكي فيها عن انحطاط الذوق العام.
*صورة من فايسبوك وليد الطايع