نغمات “السطمبالي” و”الشاوي” تزيّن ميناء بنزرت القديم

 يسرى الشيخاوي-

 في ميناء بنزرت القديم، يعانق الليل صفحة الماء ويغازل القوارب الراسية، فتتهادي وتتبعثر ظلالها إذا ما ارتطمت بأنوار المقاهي، هي  ليست مجرّد قوارب بل هي حافظة لقصص الصيادين وحكاياهم، وخازنة لأسرارهم مع البحر.

أخيلة القوارب تتراقص على إيقاع الليل، والعابرون عبر الميناء القديم يجلسون على شفاه يرقبون انعكاس النجوم على مائه أو ربّما يعبرون إلى عالم الذكريات التي تهب جماعات في حضرة المكان العتيق.

فيما مراكب الصيد تناجي الليل والماء في صمت، تنبعث نغمات السطمبالي من ركح مهرجان "راست انجلة" للموسيقى البديلة فيلبي الحضور نداءها وتحاكي حركاتهم الصوت المتسلل من آلة القمبري إذ تداعبها أنامل الفنان بلحسن ميهوب.

 سفر إلى عالم السطمبالي 

نغمات القمبري لا تخفت وقرقعة "الشقاشق" تتعالى في الأثناء لتستحضر صليل الأصفاد والأغلال التي تزين أيادي "العبيد" وسيقانهم، هي صرخات الحرية والانعتاق المتمرّدة على حلقات السلاسل، هي نداءات تسمو على العنصرية والاضطهاد.

قبالة الركح حيث تنساب نغمات القمبري وإيقاعات الشقاشق محاكية غمغمة العبيد وتوسلاتهم وصوت انكسار أصفاد الاستعباد على وقع ثحرّرهم من الواقع بفعل العزف والغناء، غناء يترجم رحلة كسر القيود.

أنغام حادة خلقتها أنامل العازفين على الركح، فراودت أكف جمهور مكّنته فلسفة مهرجان "راست انجلة" للموسيقى البديلة من مواكبة العروض الموسيقية المتنوعة مجانا، وتعالى التصفيق وترنحت الأجساد يمينا وشمالا تنشد الخلاص من الواقع.

أصوات الأكف المتعانقة، وأصوات الأقدام إذ تضرب على الأديم، والأصوات المنبعة من "الشقاشق" والقمبري، كلّها صارت صوتا واحدا اهتزت على وقعه أجساد الحاضرين وهم يلاحقون السكينة في عالم يختلط فيه أنين العبيد برنين الحديد.

 أغان تتضمّن كلمات باللهجة التونسية وكلمات أخرى قد لا تفهمها بعضها موسوم بلهجة افريقية وبعضها الآخر "عجمي"، وفي غمرة الموسيقى لن تهتم بالكلمات ولن تتوقف عن هز رأسك والتمايل على وقع الألحان والكلمات وإيقاعات الأيادي والأرجل وأنفاس الحضور.

حالة من التناسق الروحي خيمت على الأجواء في ميناء بنزرت القديم، وسط إيقاعات تغريك بالسفر عبر الزمن وتجعلك تمحّص في تلك الإرادة التي صنعت من المعاناة تعبيرة احتجاجية راقصة وتلك الطاقة التي تبعثها موسيقى السطمبالي في النفوس.

سفر إلى عالم الشاوي 

من عالم السطميالي سافر جمهور مهرجان "راست انجلة" إلى عالم الشاوي، إذ عكست الموسيقى حكايات جبال الأوراس واستحضرت ملاحم الحب في زمن ماض دعتها إلى الحاضر واستقدمت إليها المستقبل، ليقحم عرض "شاوية" لنضال اليحياوي الحضورة في تجربة فنية لا تعترف بالتصنيفات.

في رحاب ميناء بنرزت القديم، رنّت حكايا الجبال على إيقاع تصفيق الجمهور ورقصه، موسيقى متفرّدة لاهي بالعصرية ولا هي بالتقليدية، هي موسيقى تقف في المنتصف بين زمنين قوامها البحث في عمق الذاكرة الغنائية في سفوح الجبال حيث  مازالت كلمات الأغاني على طبيعتها.

أحاديث الحب ولقاءات العاشقين والغزل بكل درجاته، حملتها الاغاني التي ردّد نضال اليحياوي كلماتها على وقع توليفة موسيقية جمعت القصبة والبندير بما يحيويانه من ملامح الغناء الشاوي القادم من رحم الجبال.

على إيقاع أغان  تحملك إلى أيام ولّت، رقصت الأجساد واحتوى الفضاء خطوات الرقص التونسي التي بدت على اختلافها متناغمة مع الموسيقى المنبعثة من الركح، موسيقى يخاطب فيها الشاوي الروك والجاز والبلوز.

حالة من النشوة أوجدها النمط الموسيقي العالمي الذي رسمت آلات الغيتار والباص والدرامز معالمه حينما امتزجت مع ايقاعات البندير ونغمات القصبة، نمط موسيقي تتمثل فيه كل ذائقة موسيقية نفسها لما يحيويه من ثراء.

جنون العازفين وعشقهم للنمط الشاوي، زينة العرض الذي اختلفت فيه التعبيرات الموسيقية لتلتقي كل مرة عند موسيقى جبال الأوراس، تلك الموسيقى التي تحاكي صمود الحجارة وعصف الرياح وصوت تساقط الثلوج على القمم، موسيقى تحمل بين طياتها شجنا وفرحا في ذات الآن ولا يمكنك مقاومة إغراءات الرقص على إيقاعها.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.