بوفاة السبسي… رحل “القائد” !

محمد علي الصغير-

… ورحل الباجي قائد السبسي… رحل رئيس الجمهورية الثانية… في يوم مهيب… في يوم تحتفل فيه تونس بورقيبة بذكرى غالية على قلوب كل التونسيين…  ذكرى 25 جويلية 1957، تاريخ إعلان قيام الجمهورية التونسية وتحررها من هيمنة حكم البايات… سبحان الله… وكأن القدر شاء ان ينصف هذا الرجل الذي اقترن اسمه بمحطات عديدة في حياته السياسية… فكان يوم وفاته يوم عيد وطني…

 

الباجي قائد السبسي أو "البجبوج" كما يحلو لمريديه ومناصريه مناداته، هو كائن سياسي استثنائي… فالرجل عايش وساهم في بناء اللبنة الأولى لدولة الاستقلال مع رفيق دربه مهندس الاستقلال، وباني الدولة الوطنية،الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة. وهو  من  تحمل  كذلك العديد من المسؤوليات وتقلد شتى المناصب في عهد بورقيبة الذي اختاره مستشارا له في مناسبات عدة وعينه على رأس وزارات سيادية في فترات حساسة جدا. ومن اخطر المناصب التي تقلدها الرجل هو رئاسته لإدارة الأمن الوطني بعد اقالة ادريس قيقة ابان المحاولة الانقلابية سنة 1963 والتي كادت تعصف بالحكم البورقيبي وربما بالجمهورية الناشئة آنذاك. 

 

ولعل تقلده لهذا المنصب الحساس والحيوي خصوصا في تلك الفترة التي شهدت صراع "بقاء" بين بورقيبة وخصومه الذين حاولوا اسقاط حكمه وربما التخلص منه نهائيا كما حدّثَتْ به الروايات والدراسات التاريخية، مثلت "النقطة السوداء" في تاريخ الباجي قائد السبسي. 

 

فخصومه لم يتوانوا لحظة الى حدود الايام الاخيرة من حياته في اللعب على هذا الوتر وتشويه تاريخ الرجل وحتى الدعوة الى محاكمته بتهمة تصفية خصوم بورقيبة من اليوسفيين وغيرهم. هؤلاء لم يراعوا التضحيات التي قدمها في سبيل حقن دماء التونسيين بعد ثورة 14 جانفي وخصوصا اثناء الأزمة السياسية الخانقة التي مرت بها تونس بين سنتي 2013 و 2014 بعد انسداد كل المخارج وتعطل لغة الحوار بين الترويكا الحاكمة والمعارضة المتشبثة باسقاط "النظام" خصوصا بعد النداءات المطالبة برحيل حكومة علي العريض في ما كان يعرف باعتصام الرحيل وتعكر المناخ الامني والسياسي بعد اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

 

الباجي قائد السبسي  نزل بكل ثقله السياسي والمعنوي من أجل انقاذ البلاد من التفكك والفرقة. الرجل  خبر السياسة وفنونها ومكرها وحيلها فهو  امتهنها منذ ريعان شبابه في صلب الحزب الحر الدستوري الجديد مع رجال صادقين ومخلصين لوطنهم منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. السبسي استلهم من تاريخه السياسي وخبرته في تلقي الصدمات وتجاوز الكبوات ليظهر مظهر الرجل الجامع والقادر على ان يجبر الجميع، اسلاميين وشيوعيين ووسطيين وعروبيين وقوميين على الجلوس الى طاولة الحوار. 

 

ونجح الرجل في هذا المسعى نجاحا لافتا جعل من تونس نموذجا يحتذى. هذا الالتفاف حول قائد السبسي من قبل الجميع سياسيين ومنظمات شغيلة واعراف وحقوقيين ومجتمع مدني جعلت كل الاعين تتجه نحو "المعجزة" التونسية. ففي الوقت الذي انزلقت فيها دول ما سمي بالربيع العربي  مثل سوريا ومصر واليمن وليبيا في اتون صراعات وحروب داخلية، نجحت بلادنا بفضل اعلاء لغة الحوار وبفضل حكمة وتدخل العقلاء على غرار السبسي من تجنب هذا السيناريو الكارثي… وهو ما جعل "الاب الثاني" للتونسيين بعد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يحظى بمكانة مرموقة وشعبية عالية لدى العديد من القادة والرؤساء في مختلف انحاء العالم.

 

تونس والتونسيون، لن ينسوا فضل هذا الرجل في تجنيب الوطن الانزلاق في غياهب الصراعات الداخلية وربما الحرب الاهلية بعد ان كشر الجميع عن انيابه وبعد ان لاحت عليهم بوادر الطمع والجشع وحب السلطة. السبسي، بحكمته ورجاحة عقله ودهائه ودرايته العميقة بفقه القانون وخفة روحه وقدرته الفائقة على الاقناع استطاع ان يجمع المناقضات وان يقرب وجهات النظر وان يعلو صوته ليكون صوت الحكمة في الوقت الذي تعالت فيه كل الأصوات مطالبة بحقها في السلطة.

 

زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، أشد منافسي السبسي وأحد طرفي لقاء باريس الشهير، في اوت 2013, الذي جمع الرجلين ابان اشتداد الازمة السياسية، لم يخف قط اعجابه بالرجل وبحكمته. وهو لا يفوت الفرصة دائما في الاستشهاد بمواقفه وبالدعوة كلما تعرضت البلاد الى هزات سياسية الى الاستنجاد والاحتكام الى "صديقه" كما يصفه دائما. وهي شهادة ولئن رأى فيها البعض تملقا و"تقية" فانها تؤكد المكانة التي يحظى بها الرجل لدى خصومه.

 

هذا الاعتراف للرجل التسعيني الذي لم يفقد يوما وعيه السياسي الى حدود اللحظات الاخيرة من حياته، بمكانته  السياسية ووزنه الشعبي ليس من باب الفضل ولا من باب المنة بقدر ما هو انصياع لحقيقة ثابته فرضها السبسي من خلال المسار السياسي الذي انتهجه منذ 27 فيفري 2011 تاريخ تقلده منصب رئيس الحكومة بعد استقالة حكومة محمد الغنوشي. فمنذ ذلك الوقت شرع قائد السبسي في تشييد تجربة سياسية جديدة مختلفة تماما عن سابقاتها بل وفارقة في تاريخ هذا الوطن. فكل المتابعين يؤكدون ان جميع القرارات والسياسات التي ارساها السبسي في تلك الفترة كانت لها تبعات  مباشرة وانعكاسات مصيرية  في تحديد المسار السياسي برمته في وطننا. 

 

نجاح هذا  المسار الذي افضى الى بلوغ بلادنا اليوم مرحلة متقدمة من النضج على مستوى التجربة الديمقراطية خصوصا بعد صياغة الدستور الجديد والقطع نهائيا مع الفترة الانتقالية باجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014 جعل من السبسي رقما مهما في الحياة السياسية وتطورها. فحتى مع انفراط عقد التوافق واعلان القطيعة بين حركة النهضة وحركة نداء تونس التي أسسها الرئيس السبسي، سعى الرجل بكل دهاء الى المحافظة على شعرة معاوية حتى يجنب البلاد الدخول من جديد في مطبات سياسية.

 

وبالرغم من دخوله في مشاكل صحية اصبحت ظاهرة للعيان لم يتأثر السبسي بجميع المشاكل التي احاطت به خصوصا بعد احتدام الصراع وبلوغ القطيعة ذروتها مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي راهن عليه ذات يوم وفرضه على الجميع. ورغم بروز جبهة ممانعة قوية ترفض المراهنة على شاب اربعيني ليس له من التجارب والحنكة السياسية ما يخول له تقلد مثل هذا المنصب الحساس، الا ان "الشيخ" راهن على هذا الشاب ومنحه ثقة كبيرة… ولأن لا صداقات دائمة في السياسة فان هذه العلاقة القوية بين "الشاب الطموح" و"الشيخ الحكيم" لم يكتب لها ان تستمر وسادتها حالة من البرود الغريب ادخلت حالة من الارباك والغموض على المشهد السياسي برمته.

 

ورغم وفاته ومغادرته المشهد السياسي الا ان السبسي الذي كان والحق يقال مسكونا بحبه لمجد الرئاسة،  ابى الا ان يكون حاضرا وان يترك بصمة  في المسار السياسي من بعده.   فمن خلال رفضه ختم التعديلات على القانون الانتخابي في الآجال الدستورية المحددة وفي غياب المحكمة الدستورية، ساهم  قائد السبسي في خلق ازمة دستورية حادة في الوقت الذي تتستعد فيه البلاد الى الاستحقاقات الانتخابية القادمة تاركا الابواب مفتوحة على مصراعيها للتأويلات القانونية والدستورية. ولئن استهجن البعض هذا التصرف الذي اعتبروه خرقا للدستور دافع اخرون عن الرئيس الراحل مشيدين بموقفه الرافض للإقصاء وهو موقف ليس بغريب عن هذا الرجل الذي طالما آمن بالحوار كسياسة مثلى لتجاوز الخلافات.

 

برحيل الباجي قائد السبسي، أول رئيس تونسي منتخب بطريقة ديمقراطية وشفافة، تدخل تونس مرحلة سياسية جديدة. هي مرحلة في تقديرنا حساسة وبالغة الدقة ولكن ليست بالخطيرة كما يسوق لها البعض من الصائدين في المياه  العكرة والمتعفنة. الهزات السياسية التي عرفتها بلادنا بعد الثورة وطريقة التعامل معها اثبت ان الطبقة السياسية في تونس عادة ما تتجاوز في مثل هذه المواقف اطماعها ونزواتها في سبيل المحافظة على الاستقرار والسلم الاجتماعي. 

حفظ الله تونس من المتربصين ورحم الله الباجي قائد السبسي رئيس كل التونسيين.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.