21
يسرى الشيخاوي-
في شهر جوان من السنة الفارطة، رأت أيام قرطاج الكوريغرافية النور، وكانت فضاء لمساءلة الذاكرة من خلال الجسد الراقص، وإعادة التفكّر في توثيق خطوات الرقص وحركاته والتعبير بها عن الواقع السياسي والاجتماعي.
وللسنة الثانية على التوالي، تتولى الباحثة والراقصة مريم قلوز إدارة هذا المهرجان الذي يهدف إلى إبراز دور الجسد في حركات التحرير والتحرّر وفي حفظ الذاكرة، وقلوز راقصة وباحثة جامعية مختصة في علم اللسانيات الاجتماعية وفي نظريات الأداء الفني ومهتمة بتاريخ الرقص في الدول العربية وخاصة تونس.
وللحديث عن الرقص في تونس، وعن التعاطي مع الجسد الراقص، وعن الرقص الشعبي التونسي وعن برمجة أيام قرطاج الكوريغرافية، التقت حقائق أون لاين، قلوز وكان معها الحوار التالي:
كيف تقرئين الاختلاف في التعاطي مع الرقص كممارسة اجتماعية وكمهنة؟
عندما انطلقت في البحث الميداني في مجال الرقص في تونس وبالملاحظة، الرقص كممارسة اجتماعية اغلب العائلات ترقص، في الستينيات الفرقة الوطنية للفنون الشعبية، هناك إقبال عليهم وبعضهم تحوّل إلى ايقونات في الرقص على غرار خيرة عبيد الله واللغبابي ورضا العمروسي، والإشكال لا يكمن في النظرة إلى الرقص كممارسة اجتماعية لأنّه متأصل في المجتمع ولكن التخوّف يرتبط بالحديث عن الرقص كمهنة.
والبعض يستغرب فكرة امتهان الرقص، والحال أن الأمر يتطلّب تكوينا وبحثا وسفرا بين البلدان للنهل من الثقافات الاخرى، والتمكّن من التقنيات الجسدية، وفي الرقص أداتك هي الجسد، والجسد والراقص وحدة أخرى وهو ما ثير بعض "التحفّظات" في علاقة بظهور الجسد على الركح.
تحدّثت عن الفرقة الوطنية للفنون الشعبية، في هذا السياق هل ترين أن الرقص الشعبي في تونس يلقى الحظوة التي يستحقّها؟
هو في الحقيقة، وإن كان هذا المهرجان يعنى بالرقص المعاصر، السنة الفارطة كان هناك درس عظيم في الرقص التونسي ودعونا إليه الراقصة خيرة عبيد الله الوجه البارز في هذا المجال، وكان الحدث في ساحة المسارح وتفاعل معها الجمهور ورقص، هذه السنة مثلا سيكون هناك عرض راقص من افريقيا وتحديدا من جزر الانتي وسيكون ممزوجا بالهيب الهوب، وسيكون هناك حفل مفتوح مرفوق عازفي ايقاع تونسيين لعزف الموسيقى التونسية، إضافة إلى حضور راقصين من الفرقة الوطنية للفنون الشعبية.
والإشكالية اليوم هي "كيف نتعامل مع الفن"، ومن المحبّذ أن نخرج اليوم من تصور الفولكلور لأنها تبعث على التوجّس، ومن المهم أيضا البحث اكثر في هذا المجال وتوثيقه وهو امر صعب على اعتبار انه فن متحرّك، ومسألة توثيق الخطوات مهمة ونحن مهتمون بها في المهرجان.
في ظل اهتمام بعض الباحثين بالرقص الشعبي وبخطواته، هل يمكن أن يحظى بنفس المكانة التي يحظى بها الرقص الشرقي في العالم؟
في الواقع، كتبت الكثير من المقالات عن الرقص الشرقي وعن تسمية " danse du ventre " أي " رقصة البطن" وهي صنع غربي ينطوي على نظرة ذكورية واستعمارية في اواخر القرن 19، وهذا لا ينفي وجود الرقص الشرقي، ولكن هذه النظرة غيرته وأعطته صبغة اخرى.
والغرب لم يهتم بالرقص المغاربي الذي يتسم بالتعددية ونذكر رقصة الشيخات في المغرب، ورقصة القناوة، ورقصة العلوي ورقصة المحاربين في الجزائر ورقصة البرجوازية ورقصة وهران، ونحن في تونس أيضا لكل منطقة خصوصياتها في الرقص وهو ما أسهم في تنوع التقنيات وهناك اليوم من يحاول الارشفة.
وهناك العديد من الكوريغرافيين المهتمين بالرقص الشعبي، طوعوا خطواته لتصبح ابداعا كوريغرافيا معاصرا ومنهم من اهتم بالسطنبالي على غرار كريم تويمة، ومن اهتم بالربوخ على غرار عماد جمعة ورشدي بلقاسمي، وهناك من اهتم بعلاقة الرقص بالجمهور ومسألة البرجوازية على غرار ملاك السبعي، وحافظ زليط ايضا استند في التصميم الكوريغرافي الى الخطوات التونسية، واليوم من الضروري النظر في كيفية تثمين هذه الأعمال وتقريبها من الجمهور، وكيفية صناعة شبكة ترغّب الجمهور في مشاهدتها.
ألا ترين، أنّ مناسبتية التظاهرات الثقافية التي تعنى بالرقص قد تحول دون تجسيد هذا التصوّر واقعيا؟
من المهم أن يخرج الأمر من نطاق المناسباتية، وأنا دائما أعتبر أنّه مهما تكثّفت التظاهرات الثقافية التي تعنى بمجال الرقص، فإنّها تظل قليلة على هذا المجال، كما أن كثرة هذه التظاهرات تمكّن الراقصين والمهتمين بالمجال من إظهار أعمالهم وتساهم في تنويع الأعمال الكوريغرافية.
الرقص ليس مجرّد خطوات، بل هو تعبيرات اجتماعية وسياسة، كيف يتجلّى هذا الأمر في فلسفة أيام قرطاج الكوريغرافية؟
شعار المهرجان "لا رقص دون كرامة جسدية"، وبالنسبة لنا الجسد الراقص هو فضاء للذاكرة التي قد تكون حميمية ولكنّها بالأساس اجتماعية وسياسية، والنظرة الفنية لهذا المهرجان أن الجسد الراقص ليس جسدا متحرّكا في المطلق، بل هو جسد وراءه فكرة وفلسفة وثقافة تختلف باختلاف الواقع الذي ينتمي إليه، والجسد الراقص هو صورة للمحيط الموجود فيه وداخله تتماهى العلاقة بين السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
هذه النظرة الفنية للمهرجان نابعة من تكوينك الذي راوح بين النظري والتطبيقي، في علاقة بالتطبيق كيف تمكّنت من خطوات الرقص الشعبي التونسي؟
أنا تعلّمت هذه الخطوات من الراقصة خيرة عبيد الله وتلقيت بعض الدروس في الفرقة الوطنية للفنون الشعبية، وحتى في الأعراس كنت أتابع خطوات الراقصات وأسجّلها لأفهمها وأحسها، والفرقة الوطنية للفنون الشعبية منذ الستينيات كانت توثّق هذه الخطوات، ومع التوثيق برزت فكرة تقديم الرقص الشعبي في "باليه" وهو ما طرح نقاشا حول كيفية تأطير الخطوات والحال أن الرقص الشعبي ممارسة اجتماعية تتسم بالتلقائية، وإن كان التأطير يحسب للفرقة الوطنية للفنون الشعبية فإنه من ناحية أهرى غيّب عفوية الرقص الشعبي.
أي الجانبين تهتمين به أكثر في مجال الرقص، النظري في علاقة بالبحوث الميدانية أو التطبيقي أي ممارسة الرقص؟
أنا حاولت ألا أفرق بين النظري والتطبيقي، حاولتُ في كتابتي أن أضع بصمة راقصة وأنه في الرقص لا أتجرد من الباحثة، وسأمضي حياتي بين الرقص والكتابة، وأحاول ان أضع علاقة بينهما تكون أوضح بالنسبة لي.
وفي تونس ليس من السهل أن تكون راقصا، بعض الأصدقاء تعرّضوا إلى الرفض وإلى مشاكل اقتصادية، ذلك أن الرقص مهنة صعبة، وعلى عكس الموسيقى والمسرح لا يوجد معهد يحفظ هذه المهنة ويحدّ من نسب البطالة في المجال.
رؤيتك كباحثة وراقصة كيف ترجمتها في برنامج أيام قرطاج الكوريغرافية؟
هذه الرؤية كانت واضحة في البرمجة، من خلال تخصيص ندوات في الحصص الصباحية تضم باحثين وجامعيين سيتحدّثون عن الرقص والجسد الراقص وعن تاريخ الجسد في العالم العربي وتاريخ جسد الفنان وعلاقة الجسد بالسياسة أو ما بعد الاستعمار.
وكان للبرمجة منهجية خاصة، تتمثل في عروض راقية من ناحية ومن ناحية أخرى تهتم بمسائل سياسية واجتماعية وتؤمن بأن الجسد فضاء للذاكرة وهو ذاكرة، مثلا اذا كنا في بلدان لا تحترم كرامة الجسد أو تنتهك حرمته فإنه من غير الممكن أن يكون الجسد الراقص فضاء لهذه الهيمنة.
ومن بعض الانتقادات التي نتعرّض إليها هي وصف البرمجة بالنخبوية، وأنا أؤمن بأن الجمهور التونسي يحب العروض الراقية، والهدف ليس وضع عروض مجانية، هي تذاكر حضور بأسعار رمزية، لأن الرقص مهنة، ولأن ديمقراطية الفن تستوجب أن يكون للمتابع الحق في مواكبة العروض أو رفض مواكبته.
على أي أساس تم اختيار البلدان المشاركة في أيام قرطاج الكوريغرافية؟
في البرمجة هناك حضور افريقي وعربي لافت، من خلال عروض من مصر وفلسطين وسوريا ولبنان والمغرب والجزائر وتونس بالطبع، وأنا أتمنى أن يكون المهرجان يوما ما شبكة للرقص والكوريغرافيا العربية.
وفيها فنانون يهتمون بمسائل صعبة على غرار ذاكرة التعذيب والحروب الأهلية واللجوء في سوريا والدكتاتورية والعنف تحت الاستعمار، وأردنا من ناحية أخرى أن نبث الفرحة ، ونترك المجال للجمهور للمشاركة فيها مثل الحفل المفتوح يوم 15 جوان يرقص فيه الجميع، وهي رسالة سياسية تتجسّد من خلالها فكرة المواطنة.
إذا، كيف يسهم رقص في بناء مفهوم المواطنة؟
الرقص يمس الأفراد، لأن الرسالة تمر من جسد إلى جسد آخر، والمتفرج يتفاعل مع الراقص على الركح، وعلى سبيل الذكر عرض محمد فؤاد الذي سيحضر من مصر سيشارك فيه الجمهور، ونحن اخترنا نوعية هذه العروض لكي لا يحس ان هناك حاجزا بينه وبين الركح.
هل الدورة الثانية لايام قرطاج الكوريغرافية وليدة إقبال على الدورة الأولى؟
في السنة الفارطة كنت اعتقد أن الجمهور سيكون نوعا ما خاصا ونخبويا ولكن حضر جمهور متنوع، وهذه السنة سيكون المهرجان منفتحا اكثر وأتمنى أن يحضر الجميع لأن الرقص فرحة ونحن في حاجة لها.