بين التكوين والمهام العملياتية: المؤسسة العسكرية.. وجوه متعددة والهدف واحد

  أمل الصامت –

هي بضع أغنيات ورسوم نادرة وقصائد قليلة تلك التي يمكن أن تجدها تتحدث عن الجيش التونسي الأبي الذي تمضي هذه السنة 63 سنة على انبعاثه، فلا أعمال درامية أو سينمائية أو مسرحية تُذكر في تونس تتحدث عن حماة البلاد والعباد مثل بقية البلدان العربية وحتى الغربية، فكم من "ابراهيم الرفاعي" وكم من "ديسموند دوس" من بين جنود تونس البواسل الذين لم يعرف عن تضحياتهم وبطولاتهم غير الدائرة الضيقة المحيطة بهم من أبناء فوج أو حضيرة أو زمرة ينتمون لها.

قد لا تخطر على بالك مثل هذه الأفكار إذا لم تقم بزيارات مختلفة بين مجموعة من المنشآت العسكرية كالتي برمجتها وزارة الدفاع الوطني منذ شهر تقريبا لفائدة الصحفيين بمناسبة الذكرى 63 لانبعاث الجيش الوطني ومن أجل التعريف أكثر بمهام المؤسسة العسكرية وأنشطتها التي لا تقتصر فقط على حمل السلاح والانتشار على الحدود والتموقع بين الجبال ومكافحة الارهاب وحماية المنشآت الحساسة وتأمين الانتخابات ونقل مواضيع الاختبارات في الامتحانات…

مدنيون في حضرة العسكر

للمؤسسة العسكرية منهجية متكاملة في التكوين والتأطير سواء لأبنائها أو للمدنيين إضافة إلى مهامها الأساسية، وبالاطلاع على المركز العسكري للتكوين المهني بوادي الليل المحدث سنة 2014، والذي يعتبر واحدا من 14 مركز تكوين مهني خاضع لإشراف وزارة الدفاع الوطني، تجد أن للشباب إلى غاية سن الـ18، فرصة الالتحاق بهذا المركز والتمتع بامتيازات عديدة على غرار التنقل والعلاج المجانيين وأولوية الانتداب بالمدارس العسكرية ومنحة شهرية -على تواضعها فإنها لا تمنح من قبل المراكز المدنية- للظفر بعد سنة واحدة بشهادة تسمح بانخراطه في سوق الشغل.

وقدّم آمر المركز المقدم حبيب العبيدي هذه المنشأة العسكرية على أنها مؤسسة عسكرية ذات استقلالية ذاتية ومالية تندرج ضمن البرنامج الثاني لوزارة الدفاع الوطني تحت عنوان التنمية والمساندة، وتتلخص مهامه في اعتماد البرامج المنظرة في مجال التكوين المهني وإسناد شهائد مصادق عليها من طرف وزارة التكوين المهني.

ويقوم المركز، وفق المقدم العبيدي، بتكوين المتربصين في اختصاصات مختلفة تحددها الوكالة الوطنية للتكوين المهني على غرار نجارة الألمنيوم وكهرباء البناء والتبريد والنقش على الجبس والتجهيز الحراري والصحي ونجارة البناء، حيث تصل طاقة استيعابه إلى 180 متربص تفرز حوالي 140 متخرج كل سنة، علما وأن كل متربص يخضع قبل الالتحاق بالمركز إلى كشف طبي ونفسي.

ويمكن للشباب من المدنيين الذين لم يتجاوزوا الـ18 سنة الالتحاق بالمركز العسكري للتكوين المهني بوادي الليل إذا كانت لهم سنة تاسعة منهاة للحصول على شهادة الكفاءة المهنية، أو شهادة المهارة إذا كان المستوى الدراسي أقل من ذلك، وكل ذلك بعد التقدم بمطلب باسم وزير الدفاع الوطني و4 صور و4 ظروف متنبرة ونسختين من بطاقة التعريف أو ضمان أبوي وشهادة إقامة.

وتصل فرص التشغيل بعد الانتهاء من التكوين إلى نسبة 90% من المتخرجين من خلال الثقة التي اكتسبوها والانظباط والتعود على العمل في مجموعات، وفق ما أكده المقدم العبيدي.

هكذا يصبح المسعف مقاتلا…

وجهة أخرى ضمن زيارات الوفد الصحفي تقودك إلى مؤسسة عسكرية أخرى قد تمرّ بجانبها أكثر من مرة في اليوم وهي الواقعة أعلى منطقة الجبل الأحمر بالعاصمة، دون أن تعرف ما يدور بداخلها أو تحسب أنها مجرّد بناية تابعة لوزارة الدفاع الوطني تعنى بالمسائل الإدارية لا غير، إلا أنك تجد نفسك في حضرة مدرسة الصحة العسكرية المحتفلة هذه السنة بخمسينيتها، والتي تم تغيير صبغتها إلى مؤسسة تعليم عالي عسكري عام 2017، بعد ان انطلقت سنة 2009 في تدريس الإجازة التطبيقية في الاختصاصات شبه الطبية وفق نظام "إمد" (إجازة، ماجستير، دكتوراه).

وتتمثل مهام المدرسة في تأمين دروس الإجازة التطبيقية في الاختصاصات شبه الطبية (علوم التمريض والتخدير والإنعاش) لفائدة هياكل ومؤسسات الصحة العسكرية بالأساس أو لفائدة الهياكل والمؤسسات الوطنية والأجنبية عند الاقتضاء وذلك في إطار التعاون وبمقتضى اتفاقيات تبرم مع وزارة الدفاع الوطني في الغرض، إضافة إلى إنجاز البحوث العلمية والتقنية في مجال الاختصاصات شبه الطبية وخاصة منها الاستراتيجية والاستشرافية المتعلقة بالسياسة الدفاعية الوطنية، غلى جانب تنظيم دورات تكوينية تكميلية في الاختصاصات شبه الطبية المتصلة بالدفاع الوطني.

ويلتحق تلامذة المدرسة من المتحصلين على شهادة الباكالوريا علوم ورياضيات المنتدبين بعد تلقي تكوين عسكري، ليحضوا بتكوين علمي على مدى 3 سنوات كل في اختصاصه، مع توفير السكن والإعاشة والتنقل لاجراء التربصات الاستشفائية بالمؤسسات الصحية العسكرية وبالمستشفيات الجامعية التابعة لوزارة الصحة طيلة تلك المدة، للحصول إثر ذلك على شهادة الإجازة الوطنية التطبيقية كشاهدة جامعية معترف بها وطنيا ومصادق عليها من طرف وزارتي الصحة والتعليم العالي والبحث العلمي، ويتم بعد ذلك تسمية كل متخرج برتبة وكيل تقني سامي.

ولاكتساب المعارف والمهارات اللازمة للاضطلاع بمهامه كعسكري، يتلقى تلميذ مدرسة الصحة العسكرية دروسا عسكرية نظرية وحصص رمي ويقوم بأنشطة وتمارين ميدانية على غرار تأمين الانتخابات وحراسة المنشأة، ليكون مقاتلا مسعفا يجمع بين ميزتين لا يمكن أن توفرهما مؤسسة جامعية أخرى.

وهاهي مدرسة أخرى من بين المدارس العسكرية الممزوجة بطعم الوطن، تستقبلك باستعراض عسكري رغم صغر الساحة التي خصصت له، فإن وقع الجمل التي يرتلها أولئك الشباب والفتيات، بزيهم المستوحى لونه من لون الخضراء، لا تستطيع إلا أن تجعلك تنتشي لما تسمع.. طالع للجبل العالي. طالع نصطاد الجرذان. من أجل الشهيد الغالي. نذبحكم ذبح الخرفان. طالع وكفني على أكتافي. نفديك بدمي يا بلادي. بالروح والدم نفديك يا علم. يا رجال العز نحمي أرض أجدادنا…

في حضرة "صفنبعل"

مثلما هو معلوم لدى الجميع ينقسم الجيش التونسي إلى جيش البحر وجيش البرّ وجيش الطيران، ولكن كثيرا ما يتم التركيز على الوحدات البرية والجوية باعتبار ما ينتاب الانسان من تعاطف تجاهها وهي التي يعمل أغلب أفرادها في ظروف مناخية صعبة وتضاريس وعرة إضافة إلى كثرة المهام الفرعية التي قد تنسب إليهم.

ولكن بالصعود على متن خافرة أعالي البحار "صفنبعل" تبدأ هذه الفكرة طريقها نحو التعديل.. فهناك كأي قاعدة عسكرية كل خطوة بحسبان، لكل فرد وظيفة محددة يقوم بها، ولكل مكان خصوصيته عندما تصبح السفينة بين سماء وماء وأمامها مهمات لا تقل دقة وخطورة على باقي مهام جيشي البر والطيران.

وتعد "صفنبعل" حسب آمرها العقيد بالبحرية وليد بن سالم الخافرة، الخافرة الرابعة التي عززت أسطول جيش البحر سنة 2018، مجهزة باحدث التكنولوجيات في مجال الملاحة البحرية والطاقة والدفع ومنظومات المراقبة الالكترونية، صنعت طبقا للنهج التجميعي المعتمد عالميا مما يجعل منها خافرة متعددة المهام وقابلة للتطوير 

من أبرز مهامها المشاركة في العمليات ضمن جيش البحر في نطاق الحماية والدفاع عن مصالح البحرية الوطنية في المياه الخاضعة للسيادة والولاية التونسية وخاصة في الجرف القاري وذلك عبر الاعتراض بالبحر والمراقبة البحرية والتدخل السريع ضمن عمليات البحث والانقاذ بالبحر وكذلك التفطن المبكر للعمليات المعادية القادمة من البحر، كما أن من أهم الأجهزة الموجودة على متنها المصبار الجانبي الذي يمكن من كشف قاع البحر وما يمكن أن يحويه من حطام السفن والأجسام الصلبة، إضافة إلى المصحة المتطورة المركزة على متنها وزورقي التدخل السريع.

ولم يقتصر استقبال الوفد الصحفي على متن الخافرة على التعريف بمهامها وخصائصها، حيث تم استعراض سيناريو رصد باخرة مشبوهة من طرف ضابط النوبة وأخذ القرار من قبل آمرها بالقيام بعملية اقتحام لها بعد أخذ مجموعة من المعطيات حولها خاصة وأن ربانها كان مرتبكا في حديثه مع طاقم الخافرة، وبعد التفتيش والعثور على البراهن تم توجيه السفينة إلى ميناء حلق الوادي.

تمرين طبقت خلاله وحدات خافرة أعالي البحار "صفنبعل" مسنودة بفريق متمرس من طلائع البحرية كل الخطوات المعتمدة في العمليات الحقيقية بحرفية عالية، تغوص بك في أعماق المهام العملياتية لوحدات جيش البحر الذي لا يقل عمله أهمية عن بقية الجيوش في حماية سيادة تونس وأمنها.

استراحة عسكرية 

الاحتكاك بالمؤسسة العسكرية من قبل الوفد الصحفي، لم يكن فقط من خلال المدارس التابعة لها أو وحدات جيوشها الثلاثة، إذ كان له من نادي الضباط بمنطقة البلفيدير ذات 18 أفريل 2019، نصيب.

ولما كان الموعد مع فاصل جميل بين زيارتين وزيارة، في يوم ربيعي بامتياز، كانت طاولات الغداء منتصبة في ساحة مطلّة على حديقة تطرب زقزقة العصافير، المتخذة من أشجارها منزلا، مسامعك أيما طرب، تجول بناظريك هنا وهناك فيتملكك الفضول لمعرفة تاريخ تلك البناية ولما تم اختيارها دونا عن غيرها مكانا يلتقي فيه العسكريون المباشرون منهم والمتقاعدون وعائلاتهم وضيوف المؤسسة العسكرية في مناسبات معينة.

كان واضحا للحاضرين أنهم في حضرة معلم تاريخي نال نصيبا من الترميم الدقيق للإبقاء على طابعه الأصلي قدر المستطاع، وهي بناية شيدت سنة 1901 وفقا لنمط هندسي يجمع بين التراث المحلي والموروث الاندلسي مما جعلها فريدة من نوعها بالبلاد التونسية قبل أن تتحول سنة 1977 إلى متحف فنون حديثة سمّي "دار الفنون"، حتى تم تخصيصها سنة 1988 لوزارة الدفاع الوطني التي أدخلت عليها تعديلات وقامت بترميمها وإعادة تهيئتها لتصبح مقرا يلتقي فيه أفرادها كلما أرادوا نيل قسط من الراحة منذ أن تم تدشينه سنة 1991 من قبل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كناد للضبّاط.

 

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.